طالت اشكالية الادمان للمبدعين جنبا إلى جنب مع الشباب، فإن الاشكالية مصرية بقدر ما هى عالمية ولا تفرق بين شرق وغرب وإن كان من الملاحظ أنها موضع اهتمام ثقافى عميق فى الغرب بحثا عن سبيل للانعتاق وتفكيك مخالب تفتك بروح الانسان ووجوده. وكانت صحف ووسائل إعلام قد تناولت فى الآونة الأخيرة قضايا مراكز العلاج من الادمان بعد مقتل أحد الشباب من هذه المراكز وتوالت قصص اخبارية عن سوء المعاملة بل والتعذيب داخل بعض مايفترض أنها مراكز لعلاج مدمنى المخدرات. وفى سياق تلك القضايا ثارت أسئلة حول كيفية حصول بعض المراكز المشبوهة على تراخيص بزعم علاج الشباب من الادمان، فيما اوضح الدكتور احمد عكاشة رئيس الجمعية المصرية للطب النفسى فى تصريحات صحفية أن "علاج الادمان يحتاج طبقا للقانون إلى اشراف طبى من طبيب نفسى متخصص ومعه اخصائى نفسى واخصائى اجتماعى وتمريض نفسى". ومع أنه شدد على أن "منظومة العلاج النفسى فى مصر محترمة جدا وتخضع لقوانين ورقابة هائلة"، فقد أشار الدكتور عكاشة إلى وجود مراكز علاج لا تلبى "الاشتراطات التى طلبها القانون"، مضيفا أن "وزارة الصحة بريئة تماما من منح تراخيص لهذه المراكز إذ أنها جميعا بدون ترخيص". وتابع الدكتور احمد عكاشة "أن هذه المراكز معظمها سرية ولا يعرف عنها أى معلومات إلا إذا تقدم الأهل بشكوى"، فيما لمس جانبا من اشكاليات الادمان المتعددة وتداعياتها بقوله :"إن مريض الادمان يسبب مشاكل كبيرة جدا للأسرة تصل إلى حد إقدامهم على التخلص منه وايداعه فى أى مكان رخيص". وكان الدكتور عكاشة ذكر فى حوار مع جريدة الأهرام أن الاحصائيات أفادت بزيادة تعاطى بعض أنواع المخدرات مع توتر الأحداث فى البلاد، فيما يركز المنظور الثقافى الغربى على تناول الظاهرة بصراحة كاملة وبشجاعة الاعتراف ومحاولة الوصول إلى جذور الاشكالية التى تبدو أعمق بكثير وأبعد غورا من أى عوامل آنية أو احتقانات سياسية وإن تأثرت بمثل هذه المتغيرات المجتمعية. وهاهى صحيفة الجارديان البريطانية تختار عنوان "البورتريه المكتوب" عن الممثل المسرحى والتلفزيونى انتونى شير :"اسوأ اوقاتى كانت ادمانى للكوكايين وقد انتهت فى عام 1996 وانظر لها الآن بندم".وفى كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان:"العم شارلى"، يقدم الفنان مارك اسنين تجربته الأليمة مع الادمان وخاصة ادمان الكحوليات وهو بحق "كتاب شجاع لرجل شجاع" يعترف بخبايا محنته ولحظات الضعف التى قادته للادمان أو تدمير الذات على حد قول شين اوجان فى صحيفة الأوبزرفر البريطانية. الكتاب الذى تجاوزت صفحاته 400 صفحة كلماته حميمة أمينة صادقة وراغبة فى مساعدة أولئك الذين سقطوا فى هاوية الادمان فيما اقترن بكثير من الصور وكثير من الصراحة، ليقول إنه فقد ثقته بنفسه واحترامه لذاته أثناء محنة الاستسلام للادمان فيما باتت حياته فى ظل هذا الاستسلام سلسلة عبثية من الخيارات السيئة.. :"إنها أشبه بحياة رجل فى المنفى". وإذا كان الفنان مارك اسنين يعيش فى بروكلين بنيويورك فإن المدينة التى تستعد لاحياء الذكرى الثانية لرحيل الشاعر والموسيقى جيل سكوت هيرون مازالت حبلى بالاسئلة حول سر ادمانه الذى قضى عليه وحرم الأمريكيين من فنان مبدع بحق. وحالة شاعر وفنان كبير مثل جيل سكوت هيرون الذى قضى منذ نحو عامين جراء تعاطى المخدرات دفعت ومازالت تدفع المعلقين فى الصحافة الثقافية الأمريكية للتساؤل حول "سيكولوجية المدمن عندما يكون هذا المدمن مثقفا طليعيا وصاحب وعى نقدى ونضال ثورى". فكيف لفنان ثورى ومثقف صاحب رؤى نقدية ثاقبة ان ينبطح كل هذا الانبطاح أمام المخدرات؟!..بل إن علامات الاستفهام والتعجب تتضاعف فى حالة جيل سكوت هيرون على وجه الخصوص لأنه كان قد أبدع أعمالا فنية فى مطلع سبعينيات القرن المنصرم يسخر فيها بالكلمة والغناء من مدمنى المخدرات ويطالب متعاطى المخدرات بركلها والتعالى على هذا البلاء وتجاوز محنة الادمان وعبودية الكوكايين والعودة للذات الأصيلة الحرة. وإذا كانت هذه الحالة تستدعى للذاكرة حالة فنان الشعب سيد درويش والذى قيل إنه قضى جراء جرعة زائدة، فإن الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن يرجح أنها مكيدة استعمارية بسبب مواقفه الوطنية وإن كان يسلم بأن سيد درويش فنان ثورة 1919 عرف الادمان فى مرحلة ما لكنه تخلص منه فيما عرفت الساحة الفنية المصرية والعربية حالات محزنة للادمان وبعض الأحكام القضائية شأنها فى ذلك شأن الغرب. ومنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر كان المحلل النفسى الأشهر فى التاريخ سيجموند فرويد قد أجرى دراسات على الكوكايين فى سياق جهد علمى لصياغة نظرية عامة حول العقل والطبيعة الانسانية غير أنه تنبه لعبث وخطورة سقوطه هو ذاته فى هاوية الادمان فتوقف عن تجاربه على أوراق الكوكا. وهو ماحفز هوارد ماركيل استاذ تاريخ الطب بجامهعة ميتشيجان لأن يصدر منذ أقل من عامين كتابا بعنوان "تشريح الادمان" تناول فيه هذه الدراسات الفرويدية فيما لم يثبت أبدا على وجه اليقين أن المخدرات محفز إبداعى خال من الضرر الفادح بل إن سيجموند فرويد حذر صراحة بعد نحو ثلاثة عقود من تجاربه من النتائج الكارثية لها فضلا عن مجافاتها لمسؤوليات العالم واخلاقيات الباحث. والآن ومع اقتراب الذكرى الثانية لرحيل جيل سكوت هيرون، تتزايد التساؤلات الحزينة فى منابر ودوائر ثقافية امريكية عن سر استسلام المثقف الثورى للكوكايين لينتهى حطاما قبل ان يموت وكأنه مات مرارا قبل الموت رغم أنه الشاعر الذى أبدع فى عنفوانه كلمات موحية عن "الروح الحرة التى يغتالها الادمان"؟!. وكان الشاعر والفنان الأمريكى الأسود جيل سكوت هيرون قد تعرض لوعكة صحية بعد جولة أوروبية ليدخل مستشفى بمنطقة مانهاتن ويلفظ انفاسه الأخيرة على مقربة من حى هارلم الذى انتج الجريمة والفقر وتعاطى المخدرات. ووصف جيل سكوت هيرون الذى قضى منذ نحو عامين بشاعر الثورة وصوت الثقافة السوداء بفضل انجازاته سواء على صعيد الشعر والفن او فى مجال النضال السياسى دفاعا عن حقوق الأمريكيين المنحدرين من اصول افريقية. وفيما قضى أغلب سنوات عمره ال 62 فى حى هارلم الشهير بنيويورك فإن فنان موسيقى الراب جيل سكوت هيرون تميز بالرؤى النقدية اللاذعة فى عالم السياسة ومحاربة العنصرية واشتهر نصه الشعرى :"الثورة لن تتلفز". وموسيقى وأغانى الراب التى يعد الراحل جيل سكوت هيرون من أعلامها فى الغرب، باتت طرفا فى الثورة السورية حيث يستخدمها بعض الشباب السورى فى نضالهم لاسقاط النظام هناك، كما أن هذا النوع من الفن يجذب على وجه العموم أعدادا متزايدة من الشباب العربى فى دول عديدة. ومع أن حى هارلم كان علامة على البؤس وعالم المخدرات فقد وهب أمريكا كوكبة من المبدعين السود وقدم أعظم عازفي موسيقى الجاز وراقصى "ديسكو الشوارع" وفريق هارلم الفذ فى كرة السلة فيما شهد معارك شرسة ومريرة بين رجال الشرطة وعصابات منظمة. ومن المفارقات أن العالم كان شاهدا على كل هذا البؤس حيث يقع مقر الأممالمتحدة فى نيويورك بالقرب من حى هارلم الذى بات الآن يجتذب العديد من الزوار والسائحين الأجانب هواة حياة الليل والسهر فى المسارح والحانات. إنه الحى الذى عاش فيه الموسيقى الشهير لوى ارمسترونج "أعظم عازف ساكسفون فى القرن العشرين" وصاحب رائعة "أحزان الطرف الشرقى" وفى حى هارلم أيضا تعلم مايكل جاكسون الغناء ليتحول إلى ايقونة امريكية. وعلى خطى ودرب الشاعر الكبير لانجستون هيوز ابن حى هارلم وصاحب قصيدة: "زنجى يتحدث عن الأنهار: الكونغو والنيل ودجلة والفرات"، سار جيل سكوت هيرون حيث التحق بجامعة لينكولن فى بنسلفانيا وعاد بعد استكمال دراسته لحيه الأثير. وكان الناقد بن سيزاريو بصحيفة نيويورك تايمز قد وصف جيل سكوت هيرون الذى انتمى لليسار الثقافى الأمريكى بأنه أحد أبرز أصوات الاحتجاج الثقافى فى سنوات السبعينيات من القرن العشرين وصاحب تأثير لاينكر على المشهد الشعرى للأمريكيين السود. وإذا كانت موسيقى الراب فى الأصل بمثابة فن احتجاجى للأمريكيين الأفارقة الساخطين على حرمانهم من فرص افضل فى الحياة والعمل فان المخدرات لم تساعد أبدا جيل سكوت هيرون على الابداع بل إنها كانت فى الحقيقة "مقبرة الابداع". ومع استسلامه للكوكايين بدأ منسوبه الابداعى فى الانخفاض والشح اعتبارا من منتصف ثمانينيات القرن العشرين وفى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين ادين جيل سكوت مرتين بتهمة حيازة كوكايين فيما اعترى الوجل والذعر جمهوره ومحبيه وهم يلاحظون مدى ذبوله واضمحلال ابداعه. كان جيل سكوت هيرون يراوغ فى الرد على اسئلة محبيه فضلا عن التهرب من الصحفيين بشأن محنته مع المخدرات ولعل مايثير الأسى أكثر مالاحظه صحفى فى مجلة "نيويوركر" من أن هذا الفنان كان يتفادى النظر لنفسه فى المرايا بعد أن أنهارت حالته الصحية وكأنه يريد أن يهرب من ذاته المحطمة!. وهكذا قضت المخدرات على جيل سكوت هيرون الذى كان يفضل وصف نفسه بالفنان الشامل حيث جمع بين الشعر الطليعى وموسيقى الجاز وتقاليد فن "البلو" وهى أغانى الشجن الراقصة للأمريكيين السود. وعرف جيل سكوت هيرون الذى بدأ مسيرته الأدبية بكتابة بعض القصص البوليسية فى سنوات المراهقة بالهجاء اللاذع للقوى المتحكمة فى الحياة الثقافية الأمريكية معتبرا أنها تمارس الخداع والتلاعب بالمتلقين، فكيف لمثقف تصدى بجرأة لقوى عاتية فى بلاده أن يستعبد بالكوكايين حتى بات يخجل من رؤية نفسه فى المرآة؟!.قيل إن بعض أقاربه يعكفون على اصدار مذكراته قريبا فى كتاب ضخم فهل تحمل هذه المذكرات تفسيرا لسقوط المثقف الثورى والمناضل بالابداع فى هوة أبشع أنواع العبودية؟!، وهل يتضمن هذا الكتاب اجابات صريحة من جيل سكوت هيرون حول اسئلة محنته مع الادمان التى راوغ أثناء حياته فى الاجابة عنها وتهرب منها؟!..هذا واجبه ميتا بعد أن تهرب منه حيا. نعم فجيل سكوت هيرون له حتى اللحظة الراهنة الكثير من المعجبين فى امريكا والغرب ومن حق جمهوره العريض ان يعرف سبب هزيمة "الأب الروحى لفن الراب الحديث فى امريكا" أمام الكوكايين، ولأنه فى نظر عشاق فنه كان نموذجا للمثقف الثورى فمن حقهم ان يعرفوا كيف تحطم النموذج ولماذا سقط الثورى فى الهاوية!. صحيح أن هذه الحياة الدنيا حافلة بكوارث تأتى على حين غرة وأن المأساة بغدرها قد تطيح بالعقل ثم إن التوترات قبل ذلك قد تزيد عن حدودها المقبولة لكن الصحيح أيضا أن المثقف الحق والرجل القوى بمقدوره فى نهاية المطاف أن يعلو على الكوارث ويسمو فوق كل مآساة بدلا من ركوب وهم دخان أزرق يسحبه للهاوية!. لكل من انبطح فى ظل أسى الأدمان تعبا منتحبا محاصرا بالجفاف وموته واقفا طربا: اركض لروحك الشفافة .. لرأس نبع البراءة الأولى .. لحلمك المشروع واحلى ايامك التى لم تأت بعد .. من اوجاعك اصنع انسانيتك وسلاحا.. عد لكبريائك الجميل.. فكك مخالب اللعنة ويأس اللحظة فالأيام تضمد كل الجراح وتداوى الألم الصراح.