أفريقيا في عيد، فكل من هو أفريقي يحتفل باستقلال بلده بدءا من عام 1960 إنه اليوبيل الذهبي: «أفريقيا 26». وأهم ما في هذه الاحتفالات هو العودة إلي الأسس الفكرية التي ناضل أصحابها منذ العشرينات لنشرها في شتي أنحاء العالم، وهي أسس تتلخص في مفهومين: «الزنجية LANEGRITUDE» ثم: «الفن الأسود BLack ART». إلا أنني مازلت اتساءل: «هل أفريقيا تعني كل من هو أسود اللون»، فشمال أفريقيا، مثلا، ثم مصر، ثم ليبيا، ثم البول وسكان حوض النيجر، هل هم جميعا من ذوي البشرة السوداء». لابد من أن نعيد قراءة هذه الفاهيم، لا في عصرنا هذا، بل في السياق الذي شهد ميلادها، ثم بعد ذلك نرد تلك المفاهيم إلي ما هو أكثر اتساعا: «الحضارة الأفريقية». وربما يساهم مؤتمر الثقافات الأفريقية، الذي يقيمه المجلس الأعلي للثقافة، بمبادرة من الأمين العام الدكتور عماد أبوغازي، ربما يساهم في القاء الضوء علي لحظة عناق الماضي بالحاضر، لاستشفاف الآفاق التي تتفتح الآن لفكرنا. الحق لم تسعدني الظروف لألبي دعوة الأمين العام للمشاركة في المؤتمر، إلا أنني أود بهذه الإضافة المتواضعة، أن القي ببعض الضوء علي مفهوم «الثقافة الأفريقية»، بدءا بالرجوع إلي الجذور، واعني بذلك حركة الزنجية التي صاغ مفهومها الشاعر المفكر ليوبولد سيدر سينجر، وزميله الشاعر والكاتب المسرحي ايميه سيزار، والروائي دوما، فهذه الحركة مازالت تترك أسئلة مفتوحة إلي الآن، هذا بالإضافة إلي تجاهل الاداب الرسمية في تأريخها للحركة بالدور الرائد الذي لعبته الشقيقات بوليت وجين وماردال، وكذلك الصمت الذي اسدل علي أعمال عالم المصريات السنجالي الكبير: «شيخ انتاديوب». البداية في باريس البداية في شارع كلامار، بباريس في شقة واسعة تعيش الشقيقات الثلاث: بوليت وجين وسوزان ماردال في مساء كل أحد تقام ما يسمي لدي الفرنسيين: «سهرة - مناظرة» Soinee-Debat أما الذين يترددون علي بيت الشقيقات، فهم: اندريه بريتون سائد تيار السيريالية، والكاتب الأمريكي - الأفريقي لونجستون هوجز وزميله الروائي الشهير ريتشارد رايت وغيرهم من الكتاب السود، ثم اتسعت السهرة ليصبح المكان أهم صالون أدبي في باريس العشرينات. وجذب الصالون اليه ثلاثة من المبعوثين، شاعر من السنجال اسمه ليوبولد سيدر سنجور، وآخر من المارتنيك اسمه ايميه سيزار، وثالث قارايبي، هو الروائي - المفكر دوما. وكانت بوليت ماردال، بالاشتراك مع الكاتب الأسود ساجون، تصدر أول مجلة تخصصت في الثقافة الأفريفية، هي: «مجلة العالم الأسود» (LeRevu du Hmde Nois)، وكان ايميه وزميله ليوبولد مازالا في ليسيه لوي لوجران، وهي المدرسة التي تخرج فيها كبار سياسيي ومفكري فرنسا، ومنهم جورج بومبيدو زميل السنجالي والمارتينكي، وعلي غرار مجلة بوليت ماردال وزميلها، بدأ طلاب البعثة في إصدار مجلة: «الطالب الأسود». ما الذي كان يدور من أفكار في ذلك الوقت، سواء في الصالون الأدبي أو في المجلتين؟ ايميه سيزار، وبعده - علي سبيل العدوي - ليوبولد سيدر سنجور، لخصا نهضة الثقافة الأفريقية في «كلمة - مفهوم»: هي «الزنجية» (La Negnitude) ما معني هذه الكلمة - المفهوم؟ يرد سنجور قائلا: «إن الزنجية هي جماع القيم الثقافية للعالم الأسود» ويضيف: «الانفعال زنجي والعقل أغريقي». وقد نفهم الانفعال الزنجي، فهو يتمثل في الموسيقي، خاصة الجاز، أما العقل الأغريقي، فهو منبع الثقافات الأوروبية، لأن عصر النهضة الأوروبية قام علي أساس احياء التراث الأغريقي - الروماني» فهل المقصود هو تمثل مكتبة الثقافات الأوروبية، ثم الارتداد إلي الجذور الأفريقي، وبتفاعل العنصرين يتولدشيء جديد، ديالكتيكيا؟ لنستمع سنجور، إذ يقول في مقال بعنوان: «ما يحمله لنا الإنسان الأسود»: موهوب بلا عمل «الزنجي الآن أكثر ثراء في المواهب منه في الأعمال، لكن الأشجار تضرب بجذورها وتقتحم الأرض، والنهر يندفع أعمق وأعمق حاملا ثروة من الرمال، وكما يقول الشاعر الأفريقي - الأمريكي لانجستون هوجز: «لقد عرفت أنهارا، الانهار السوداء العتيقة، ومثلما تندفع الأنهار العميقة كذلك كانت تنمو روحي»، ثم يضيف سنجور: «إن الطبيعة الحقيقية لانفعالات الزنجي هي الحساسية، بل أكثر من هذا أنها تفسر وضعه ازاء ما يقع بصره عليه من مرئيات، اذ يري مقدار كثافتها، وهي حالة ايجابية من حالات التواصل، إنه وضع ايقاعي، وهي صفة لابد أن تظل محفورة في اذهاننا». لقد وضع سنجور يده علي أهم صفة من خصائص الإنسان الأسود، هي «التعبير الجماعي»، بالرقص، أو بالطقوس الدينية، أو بالغناء، ونضرب مثلا باستمرارية هذه الخصائص في عصور تجارة الرق، ففي الولاياتالمتحدة، وخاصة في هارلم وينو اورليانز، كان مسموحا للعبيد أن يحتفوا بعطلة الأحد، فكانوا يسرقون بوق حارس المزرعة، ثم يحضرون عددا من براميل النبيذ الفارغة، وبعصا خشبية يقرعون نغمات التم، التم التقليدية، ويتداخل نافخ البوق، وهو مخطط بدائي لما سيصبح فيما بعد موسيقي الجاز، نوعية: الكلاسيكي والحديث. ولنذكر أيضا رد الفعل الأوروبي والأمريكي لهذه الشحنات الايقاعية، فإلي الآن يرقص الأمريكيون رقصات الجيرك والتشاتشا والباسانوفا، وكلها ميراث الطقوس الأفريقية، ولنذكر بالمثل تمثل كبار موسيقيي فرنسا لموسيقي الجاز، فمقطوعة «خلق العالم» للموسيقي داريوس ميلو وكذلك: «الطفلة والساحرات» للموسيقي رافيل، الأولي أساسها الرومبا والثانية أساسها خليط من الجيرك والتشاتشا. ولنرجع إلي صالون الشقيقات الثلاث ازاء مفهوم «الزنجية» كانت بوليت شديدة الحماس لحركة «نهضة هارلم»، Harlem Renaissance، وهي الحركة التي كان محركها لانجستون هوجز وريتشاردرايت والان لوك، صاحب رواية «الزنجي الجديد»، (1925) وكلود ماك كي(بانجو -1929). أما بوليت شخصيا، فقد لخصت الجهد الذي يبذله المثقفون السود في مفهوم: «التشيط الثقافي» LACTivisme CULTuzel وكانت تقول إنه إذا اختار الكاتب أو الشاعر الكلمة التي ترد السود إلي صفاتهم وتحرك ذاكراتهم الجماعية، عنئذ سوف يتكلم الجنس الصامت. ولا ننسي أننا في العشرينات، وكانت نظريات الأجناس شائعة في ذلك الوقت، وهي التي تميز - حسب جوبيو- الجنس الأبيض، وتصفه بوريث للإنسان المبدع، النشط، بينما الجنس الأسود خامل، مستكين، إنه الجنس الأدني. وفي أمريكا كان يحرم دخول الزنجي مطاعم البيض، ولا يستطيع ابن الزنجي أن يلتحق بمدرسة البيض، فإذا رددنا هؤلاء إلي أصولهم الحضارية، باعادة قراءة تاريخ القارة السوداء، ثم الهجرات المتوالية، تارة إلي أمريكا وتارة إلي جزر هاواي والمارتنيك وهايتي الخ، سنري أن الأسود قد سبق أي جنس آخر في علوم الفلك وفي الموسيقي وفي الزراعة، وفي العديد من الاختراعات، بل هو أول من عرف التدوين الموسيقي «وسنري ذلك في مقال قادم». ويوضح لنا لانجستون هوجز مفهومه لتيار: «الفنان الأسود» Black artisre إحدي ركائز حركة نهضة هارلم إذ يقول: «بالنسبة لي، الجاز هو إحدي وسائل التعبير اللاصقة بحياة الزنوج، في الولاياتالمتحدة، إن ايقاع طبول ال«توم - توم» الخالدة هو ايقاع يضرب بجذوره في طوايا نفس الزنجي، انها توم - توم المتمرد الثوري تجاه عالم البيض الضجر عالم تطارات الانفاق والعمل في المصانع، العمل، العمل، العمل والعمل بينما ايقاع توم - يتضخم صوتيا ليصبح فرحا، وضحكا وابتسامة». البرجوازية السوداء أما الرائد الثاني لنفس الحركة، واعني به ريتشارد رايت، فهو لا يري السود مجتمعا متجانسا، فهناك برجوازية سوداء، هم الصفوة، وهم الفئة التي تعمل في المصانع الكبري، كرؤساء للأقسام، ويقول رايت: «إن كل ما تتوق إليه هذه البرجوازية السوداء هو أن تجد لها مكانا في جنة عدن»، فهي التي تقيم القداس كل أحد، كالبيض وهي التي تسمي الأبيض بالسيد. وفي فصل نشره ريتشارد رايت بمجلة «شالينج» Challenge «أي التحدي» بعنوان: «مطبوعة زرقاءلكتابة الزنجية» «نشره عام 1937» يحاول أن يقيم توازنا بين نزعتين متناقضتين، بل متنافستيان فيما يتعلق بعلاقة الفنان بالجماعة الإنسانية المحيطة به، أولهما تحليل جذور العنصرية في المجتمع الأمريكي، وردها إلي أصولها ابان تجارة الرقيق، فمازالت مفاهيم العبودية سائدة في قطاعات واسعة بالمجتمع الأمريكي، وثاني هذه النزعات هي ما يسمي: «تقييم فكرة اللعب»، واللعب هنا بمعني التحرر من التوتر، والاستجابة لايقاع الجسد الحقيقي، وإذا عدنا إلي الشقيقات الثلاث، لابد أن نتوقف عند دعوة جين مادال، دعوة إلي دولية زنجية، مركزها القارة الأفريقية، وروافدها السود في هايتي والمارتينك، وجزر القرايب وفي الولاياتالمتحدة، وربما فكرها هذا هو نواة الوحدة الأفريقية الحالية. وتقول جين: «إن الدولية الأفريقية هي الحجر الصلد الذي يرتكز عليه الإنسان الأسود اينما وجد». كلها مقدمات، يعقبها وضع هذه المفاهيم في حيز التطبيق، وفي مجال الشعر أو الرواية، توجد «ثنائية» فالكاتب الأمريكي يكتب بالانجليزية، بينما يتحدث السود بخليط من لهجاتهم الأفريقية والانجليزية العامية، ولا يمكن توسيع رقعة انتشار أي ادب أسود إلا بتخطي هذه الثنائية. صلاة للأقنعة وبالنسة للشعر، رأي سنجور وسيزير ودوما أنه لو كتبت القصيدة بأوزان الموسيقي الزنجية الشعبية، أي بايقاع الرقص، فالأذن سوف تتذوقها قبل العين، وستصبح أغنية يرددها الجميع، وهذا هو المدخل الأول للشعر الأفريقي. لنستمع إلي قصيدة: «صلاة للاقنعة»، للشاعر ليوبولد سيدر سنجور: أقنعة، أقنعة/ أقنعة سوداء، أقنعة حمراء، وانت تضع قناعا أسود - أبيض. أقنعة في كل الجهات الأصلية الأربعة/ هناك حيث تتنفس الروح في صمت. إنني احييكم، احييكم جميعا، علي الأقل أحيي ذلك السلف المدثر برأس الأسد/ ايا انت يا حارس الأماكن المقدسة المحرمة. انت يامن رسمت صورتي/ علي مذبح ورقة بيضاء. رسمتها علي صورتك/ لتستمع إلي. هنا تموت أفريقيا الامبراطورية/ تحتضر. احتضار أميرة افلست/ أوروبا التي قيدتنا شفتاها بالسلاسل». إنها رقصة تشاتشا، وهو ايقاع يقوم علي عملية انتخاب لكلمة واحدة، ينتقيها ويبرزها، لتقوم بعملية تداعي صور ومعاني وذكريات في نفس من يستمع إلي القصيدة أو يقرؤها، وهذا الانتخاب يشكل أساس نظرية سنجور في التعبير الايقاعي، ويطلق عليها مفهوم: التسمية» Nomination فإن تسمي ظاهرة، أو شخصا أو شيئا، فأنت تنتزعه من «عمومية» المكان، وتضعه في مقدمة الصورة، وعندئذ تتألق ملامحة، وتحدث نوعا مما يسميه المسرحي الألماني برتولد بريشت: «تأثير الدهشة»، لأننا في الحياة اليومية نظرتنا إلي ما حولنا هي نظرة كمية، أما عندما يميز شيئا، فإننا نضعه في إطار، تماما للكادر في التعبير السينمائي، وعندئذ نفطن إلي ملامحه الحقيقية. تلك هي المقدمات للفكر والفن الأفريقي فيما بين العشرينات والثلاثينات، تري ما الذي صارت إليه تلك المفاهيم في عصرنا هذا؟ إلي حديث آخر.