كل عيد له بهجته، فعيد الفطر: بهجته فى الكعك والبسكويت والملابس الجديدة والعيدية، والعيد الكبير أى عيد الضحية بهجته فى الذبح وتوزيعها على أفراد العائلة والجيران والفقراء ثم الأكل والذى يستمر لعده أيام تأكل فيها اللحم حتى لا تطيقه. اللحم الذى أصبح يمثل الأمل المنشود والرغبة والفرحة العارمة، حيث تكون البطون صائمة طوال العام، والجميع ينتظر العيد الكبير بشدة.
كنا قد رتبنا أنفسنا، فوالدى فوجئنا به يشترى ثلاثة خراف مرة واحدة بعد أن رزق بثروة صغيرة من ميراث لأحد أقاربه، ثلاثة خراف ثروة كبيرة، وضعتهم أمى فى منور العمارة التى نسكن بها، ومنذ قدوم الخراف الثلاثة تحولت حياتنا واهتمامنا جميعا إليهم، فمنذ الصباح يبدأ الاعتناء بهم، وجميعنا – من أفراد العائلة – نمر عليهم للاطمئنان على أحوالهم، نضع لهم الماء والتبن والفول والبرسيم، نلهو حولهم ونمسكهم ونركب على ظهورهم ونمسكهم من قرونهم، حقا: فثلاث خراف تمثل بهجة وفرحة عظيمة.
لكن العائلة، بدأت تتجول وتحوم حول الثلاث خراف، عمى الأكبر تحدث مع والدى على أن زوجته أنجبت قريبا وتحتاج إلى عناية وتغذية جيدة، وعمى الأصغر قال لوالدى إنه الآن خاطب إحدى الفتيات ويجب أن يذهب لها فى العيد محملا باللحوم الضانى الطازجة كى يعرف أهلها أننا أهل كرم وسخاء، أما جدتى أم أبى فقد أشارت عليه أنها لم تعد تمتلك أسنانا للحم وأن الحلويات يجب أن تكون من نصيبها، والحلويات هى الفشة والكرشة والممبار، أى الأمعاء الداخلية للخرفان، وأختى الكبرى انفردت بأمى وأخبرتها أن نصيبها فى العيد الماضى كان ضئيلاً وأنها ابنتها الكبرى يجب أن تزيد حصتها فى ذلك العيد، فالخير كثير وثلاثة خرفان يملأون بطون جيش كامل من الجائعين، وأخى الكبير تحرك وناور تحت ضغط زوجته وأنه لديه أربعة أبناء يجب أن يمرحوا فى بحر الشوربة اللذيذ واللحم الطازح.
عندما استراح أبى وأمى من تلك المناورات، لم يتبق من حساب تقسيمات الخرفان الثلاثة إلا نصيب الجيران والفقراء، فحمد الاثنان أنفسهما على تلك النعمة التى لديهما.
بعد ذلك - بدأ أبى كعادته- فى الاستعداد والتجهيز ليوم الذبح العظيم، فجهز الأدوات من سكاكين وسواطير واطمئن على حدتها وقوتها، والطشت الكبير والأطباق التى سوف يوزع فيها اللحم، بالإضافة إلى سلامة الميزان كى يأخذ كل شخص من الأقارب والجيران والمعارف والفقراء نصيبه الشرعى، وانتهى أبى من استعدادته بالتوصية على الجزار الذى يجب أن يأتى مبكرا وبعد صلاة العيد مباشرةً.
وسط كل ذلك كانت الخرفان الثلاثة تمرح وتملأ الدنيا بالماء مائه، صوتها كان يغطى الكون بسيفونية الجوع الشهيرة للأخ بتهوفن، قوية وواضحة وحادة، وكنا نمتلىء بالسعادة والأحلام المليئة باللحم والفتة والرقاق.
وجاء وقت صلاة العيد، تجمعنا كلنا وانطلقنا للجامع، نبتهل فى حب ومودة ورحمة: الله أكبر كبيرا.. والحمد لله كثيرا، لكننا كنا فى شوق كبير للانتهاء من الصلاة للعودة لممارسة طقوس الذبح وتوزيع اللحم ثم الأكل.
المثل الشعبى يقول: « قليل البخت يلاقى العضم فى الكرشة»، فعندنا عدنا للبيت كان خالياً، ولم نسمع به أى صوت سواء سيمفونية بتهوفن أو حسب الله، وكأن الصمت جائعا، وكان الجزار قادما من الاتجاه الآخر للشارع، دخلنا المنزل، ونادى والدى علينا أن نأتى بالخروف الأول، دخلت أنا وأخى الكبير المنور، فلم نجد الخراف الثلاثة، وكانت الحبال المربوطة بها مقطوعة، ولم يتبق أى شىء، فخرجنا نبلغ والدى، الذى نظر لنا ولأفراد العائلة من رجال ونساء وجيران نظرة حادة، وكانت أمامه السكاكين والسواطير تلمع، فمد يده لأول ساطور وقال: بسم الله.