*«إبراهيم الرفاعى عاش حياة حافلة بالمخاطر والصعاب وظل شامخًا للنهاية» *«الرواية خليط من بطولات الشهيد وشعور بالألم والارتياح والفخر والحماس والمسئولية» من أقدم وأروع ما كتب عن أمير شهداء حرب أكتوبر، العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعى، هى رواية «الرفاعى»، كتبت فى 1976 وخرجت لتكون فى متناول يد القراء فى 1978، ومؤلفها الكاتب جمال الغيطانى الذى تدهورت صحته ويعيش فى غيبوبة داخل العناية المركزة، بمستشفى الجلاء العسكرى. بدأت الرواية بالعد التنازلى وهو الفصل الذى نعرضه .. 13 يومًا تبقت على استشهاده.. 13 يومًا من لحظة الفخر والانتقام الأكبر من العدو الغادر.. 13 يومًا كانت جسرًا بين الرفاعى والشهادة، كان العد التنازلى بداية النهاية لحياة حافلة بالمخاطر والصعاب التى كثيرًا ما التقاها أمير الشهداء وهو شامخ.. حتى بدا فى كل لحظة صلبًا متماسكًا أمام أعتى المواقف وأكثرها شراسة. رواية الرفاعى تختلف كثيرًا، حيث تستشعر وكأن الكاتب وقد دخل فى أعماق البطل وتعايش مع مشاعره وأحاسيسه بل ومع شعور من حوله، لم تخرج الرواية لتسرد بطولات الشهيد الرفاعى وحسب، ولكن كانت خليطًا من البطولة والشعور بأنواع عديدة من حزن وألم وارتياح وفخر وحماسة ومسئولية . العد التنازلى.. «اليوم الثالث عشر 6 أكتوبر 1973 الساعة »1530يمضى الطريق إلى مركز السماء، فى المقعد ذاته يجلس الرفاعى عاقدًا يديه أمام صدره، يتابع فراغ الصحراء وتنوع صفرة الرمال وبروز الصخور، يصغى إلى صوت المحرك الرتيب الذى استقر منذ فترة على إيقاع لا يتغير، يزداد ابتعادًا عن البيوت والزحام والضجيج، آخر من رآهم قبل التوغل فى الصحراء مجموعة من الفلاحين أمام دكان بقالة صغير يقع عند نهاية أخر قرى مركز الصف المطلة على الصحراء. قبل اقترابهم من القرية هدأ عبدالمؤمن من سرعته..يعرف ما سيقوله الرفاعى لو اخترق الشارع الرئيسى بنفس الاندفاع، أثناء ركوبهم «الجيب » التى تحمل أرقامًا عسكرية يقف عند كافة نقاط الشرطة العسكرية.. فى المرأة الأولى أثناء عودتهم الليلية من صحراء دهشور بدا متعبًا، عند آخر نطاق الفرقة لم يهدئ عبدالمؤمن من سرعته.. إن العربة ذات أربعة أبواب ولا يركبها إلا القادة، اعتدل يومها قال فى صوت فاتر، هادئ «قف »، تقدم جندى الشرطة، وقدم إليه بطاقته «تمام يا أفندم »، أصغى عبدالمؤمن إلى صوت احتكاك الحذاء بالأرض الصلبة المغطاة بذرات الرمال عند أداء الجندى للتحية، انطلق عبر الطريق الذى يدور حوله هضبة الأهرام، ود لو ينهى الرفاعى ذلك الصمت، استعاد بعض أحاديثه مع الجنود أثناء انتظاره فى الخلاء المعبأ فى شارع الهرم، فى تلك الساعات المتأخرة يمتلئ الطريق بالسكارى والحوادث وأعمدة النور المنهارة والأضواء الملونة والعربات التى تحمل أرقام الجمارك وهياكل المبانى الخرسانية، رائحة المزارع التى تتخلل البيوت.. لا يدرى عند أى نقطة من الطريق فاجأه الصوت المفاجئ ذو المستوى الواحد، «لابد أن تقف عندما يصبح الوقوف واجبًا » بوغت وقال «تمام يا أفندم »، عاد الصمت، فى ميدان الدقى جائه نفس الصوت «لو أنه لم يوقفك لطلبت مجازاته »، أومأ برأسه والصوت الهادئ يرسل فيه إحساسًا بالذنب وخشية لم يعهدها من قبل مع جميع من عمل معهم. إن الرفاعى الآن يتذكر هؤلاء الفلاحين، عند خروجه من المدينة يستعيد آخر من رآهم يسعون عبر الطرقات أو يخطون فوق الأرصفة، الملامح المرهقة، الاستسلام الغريب، الضحكة الضائعة، والنظرة الولهى من عينى مجهول، وشظايا عبارات متطايرة، بيوت مسكونة بالأسرار والماضى، دائمًا يخرج من المدينة عبر ثلاث نقاط، طريق السويس المزدحم بالثكنات حتى الكيلو 4.5 أوشكت حركة العمران أن تصل إلى هناك، ثم طريق الإسماعيلية المحاذى لمطار القاهرة، ثم هذا الطريق المؤدى إلى بطن الصحراء الشرقية، أن آخر الأشياء والمرئيات تمر به عند الخروج إلى القتال، آخر من تحدث إليه، ملامح نادية،آخر عبارات تبادلها مع الضباط والجنود الذين لم يخرجوا معه، يذكر الآن آخر اشتباك فى صيف عام 1970 ، تمتد الصحراء الآن صامتة، بحر تجمد منذ عصور سحيقة، لكن هذه المسافات الشاسعة حبلى بحركة خفية، اليوم يختلف الأمر عن خروجهم فى المرات السابقة، أنهم الآن جزء من كل، لا يلتفت إلى من معه لكنه يدرك الانطباعات،حدة العقيد علاء التى توحى بأنه سيشترك فورًا، جلوسه بميل إلى الأمام، وضع الملاكم قبل تسديد الضربة، أبو الفضل الصعيدى وملامحه التى تعكس إحساسًا بالانتظار،مصطفى المتأهب دائمًا لتلقى الأمر، أبو الحسن وشبح ابتسامة دائمة قد تظهر فى أى لحظة، أن الرفاعى يرى تلك الروابط الخفية، تشد كلً منهم إلى الآخر، قبل العبور لملاقاة الحرب يصبح كل منهم أكثر إحساسًا بالآخر.. أى كلمة تقال تلقى موضعًا مثيرًا فى آذانهم.. أى لمحة ساخرة تفجر الضحك من أعماقهم.. أثناء الانطلاق تتعانق أذرع غير ممتدة.. وتتماس خطوط البصر المستقيمة، بعد قليل سيواجه كل منهم الموت، والموت يحوم فوق الجماعة ثم ينقض فوق الإنسان الفرد، الشظية لا يوقفها إلا جسم واحد، يصبح الإنسان شديد الوحدة فى مواجهة الموت، إن تجاورهم، ومد جسور العواطف واستعادة الذكريات، كل ذلك يحصنهم ضد اللحظة المؤجلة. يتساءل المساعد حسن.. - لماذا قال البيان إنهم بدأوا بالعدوان؟ يجيب العقيد علاء.. إنها اعتبارات دولية.. يقول المساعد حسن.. أتمنى لو قلنا إننا بدأنا الهجوم.. يضم العقيد علاء أصابع يده، يهزها من أعلى إلى أسفل، يضيق الرفاعى عينيه بعد إصغائه إلى هذا الحوار القصير، ينظر إلى تل رملى مرتفع عند خط السماء، يدور إيريال ضخم لمحطة رادار، يلتوى الطريق بحدة، يتبع الأسفلت منحنيات الصحراء، يهدئ عبدالمؤمن ينظرون إلى سيارات النقل الضخمة، صناديق الذخيرة الرمادية،قذائف هاون عيار 160 مللى، كان الطيران الإسرائيلى يجىء إلى مواقع هذه المدافع بمجرد حفر خنادق الجنود حتى قيل إن الطائرات بها جهاز خاص لشم رائحة الهاون160 مللى، وجهاز آخر لشم رائحة العمال الصعايدة بناة مواقع الصواريخ، لا يذكر من قال «ربما كان ذلك تطبيقًا عمليًا لما يسمى بالاستشعار عن بعد » كانت الطائرات تجىء من الأعالى كأنها أقلعت من مطارات خفية فى أعماق الفضاء، يبرق معدنها المواجه للشمس كنصل الموسى، تنزلق،يختلط الأسمنت بالدماء وبقايا الطعام والملابس التى تثير الشفقة بعد انتهاء الغارة، خرج ضابط من موقع مدمر،ضرب بالألف رطل، صرخ.. لماذا.. لماذا..؟؟ عيناه داميتان مشدودتان إلى السماء التى بدت بعيدة، نائية، لا تجيب،نزل الرفاعى من السيارة، لم يكن يصحبه إلا مصطفى،خاضًا فى الحطام، وبقايا طعام، وفردة حذاء قديم، وعلب طعم محفوظة فارغة، وأوراق محترقة، وبقايا تليفون ميدانى، صاح صوت من بعيد، احذروا.. قنابل زمنية »، زعق الرفاعى، «تعالوا.. إنها قنابل كاذبة » هز كتفى الضابط، لم يتوقف عن التساؤل، «لماذا.. لماذا » جاء جندى قصير القامة حذرًا، اقترب عامل صعيدى، ظهر ثلاثة جنود خمن أنهم من الصاعقة، انحنوا حتى تمكنوا من زحزحة كتلة الأسمنت، حادت عينا مصطفى عن النصف الآدمى المقطوع الصلة بنصفه الأسفل. كأن ما جرى يمت إلى بشر آخرين، لكن تبدو تلك الأيام نائية، كانت الجبهة وقتئذ عارية، يجىء الطيران فى مواعيد لا تتغير إمعانًا فى التحدى، يختار الطيارون أهدافهم.. يضربون عربة ويتركون الأخرى، يقصفون موقعًا ويتركون الآخر، بينما تبدو انفجارات قذائف المدفعية المضادة للطائرات كبقايا قطن رخوة فى الفراغ. الآن انتهى عرى الجبهة، نبتت الصواريخ من كل الأنواع،مصوبة إلى كل الاتجاهات، قال ذلك اللواء ضاحكًا منذ ثلاث سنوات «فى المساء لم يرصد العدو أى شىء وفى الصباح ركبهم الذعر والغضب، لقد طرحت الأرض كافة أنواع الصواريخ »، يمضى طابور النقل، يحاذى الميكروباص منتصف القول، يزيد عبدالمؤمن السرعة حتى يتجاوزه..فوق الصناديق بطاطين ومعاطف، يجلس عدد من الجنود،يحملون أسلحة أوتوماتيكية، أحدهم يأكل، ويشيرون إلى راكبى الميكروباص الأبيض الأرقام المدنية، ينحنى عبدالمؤمن قليلآ فوق عجلة القيادة ليوسع من دائرة إبصاره، كلا الجانبين لا يدرى إلى أين يتجه الآخر؟، لكن التحرك فوق هذا الطريق، فى مثل هذا التوقيت، يعنى أن كلً منهم يتجه إلى المعركة التى بدأت فى الثانية، لم تسمع قذائف بعد، لكن تبدو الحركة كالدماء التى تهرع فى الشرايين لتغذى قلبًا ينزف، فى المقدمة عربة نقل تجر مدفع هاوتزر مكشوف الفوهة، عربة أخرى تجر مدفعًا مضادًا للطائرات، يرتدى طاقمه الخوذات، يحتل موقعه فوق المقاعد الصغيرة المثبتة إلى القاعدة الدائرية، تنأى صيحات الجنود، ينحنى الطريق ثم يستقيم، تبتعد الملامح والخوذات وتحية المتوجهين إلى القتال، يوشك الرفاعى أن يبدى ابتسامة، منذ فترة بعيدة لم يخرج مع الرجال إلى الضفة الأخرى. يدرك الآن أثناء الصمت الآدمى الذى يغطى على أزيز المحرك أن الكل يسبح فى شعور الرفقة، يهدئ عبدالمؤمن من سرعة السيارة، يقترب من مدق جانبى، ترتفع مقدمة الميكروباص، يتغير إيقاع العجلات، فى المرآة يلمح أبو الفضل منحنيًا، أبو الفضل لا يستعيد الآن ذكريات لقاء أخير مع أسرة، لا أصوات أطفال تتردد فى ذاكرته، أو رائحة خبيز بيتى تنتظره فى إجازة قادمة، إنه يصحب الآن كل ماضيه ولا يدع وراءه أى مخلفات للذكريات أو الحنين، يحمل حياته كلها على كتفيه ويجيئ بها، يلتفت إليه الرفاعى مناوشًا. «اليوم للصعايدة ..» تطلعوا إلى أبو الفضل، وسرى بينهم عبير أخوة غامض.. الصعيد كله يعيش فى انتظار هذا اليوم، بعد الهزيمة قامت النيران كبئر بترول بلا قرار. يضحك أبو الحسن.. إنه لا يفكر إلا فى آبار البترول.. تغرب التقطية على جبين أبو الفضل، يبدو الآن هادئًا كنداء خافت فى ليل متقدم.. يقول العقيد علاء.. أبو الفضل لا يرى فى مصر إلا صعايدة، الناس فى رأيه أما صعايدة أو أجانب.. يتدخل عبدالمؤمن.. طبعًا يا أفندم.. الصعايدة أجدع ناس.. يتساءل أبو الحسن.. ألا يوجد مكان للإسكندرانية؟ يقول العقيد علاء.. سيادة العميد وزع صباه وشبابه على كل البلاد. يهز الرفاعى رأسه مبتسمًا.. كنت أعد نفسى لقيادة المجموعة.. منذ الآن لن يستقر الصمت، تسرى حميمية، صوت مصطفى هادئ سريع. لكن سيادة العميد الرفاعى من مواليد بلقاس.. يقول العقيد علاء.. هذا صحيح.. ولك كل بلد أخذ منه مقدارًا.. يقول أبو الفضل.. مجموع ما قضاه فى الصعيد يفوق ذلك بكثير.. يضحك أبو الحسن.. لكن أى المناطق تعتبر صعيدًا.. إذا ذهبت إلى أسيوط وقلت لهم أنا من بنى سويف.. قالوا لك أنت من بحرى.. نفس الأمر إذا ذهب الأسيوطى إلى سوهاج والسوهاجى إلى قنا. يبتسم أبو الفضل.. الصعيد الحقيقى يبدأ من سوهاج.. لا يدع أبو الفضل فرصة إلا ويتحدث عن الصعيد الذى عرب عنه طفلً.. من يسمعه يتحدث عن قريته، يصف طرقاتها ومنحنياتها وقعدة العصارى فى الرحبة ولون البلح عندما ينضج فوق النخيل ثم تساقط الثمرات فوق الأرض ورائحة الخبيز فى الظهيرة وسوة الاثنين والمندرة ومخزن الغلال وأحاديث الرجال الليلية، من يسمعه يخيل إليه أنه عاد بالأمس من إجازة هنية قضاها يتمتع بحنان الأم ويصغى إلى دعوات الأخت ويلتحف بليل أسرى دافئ قبل عودته إلى الوحدة، لا يؤلم الرفاعى إلا رؤية أبو الفضل وحيدًا عند نزول زملائه إلى المدن والقرى فى إجازاتهم، دائمًا ينحاز إليه فى أى وقت نقاش دائر، مرات عديدة حذر العقيد علاء من توجيه أى عبارة إليه قد تخدش أحاسيسه، تمضى السيارة مهتزة أو مستقرة، إلى الخلف زوبعة أثارتها العجلات، تجىء عربة جيب من الاتجاه المقابل، ويضغط عبدالمؤمن الكلاكس ثلاث مرات، يجيبه كلاكس الجيب. «أهذه شفرة » يرد أبو الحسن بسرعة.. «لا يا أفندم.. هذه عزومة مراكبية » على الطرقات المتباعدة يحيى السائقون بعضهم ولا يرى الواحد منهم الآخر.. تقاليد مجهولة المصدر، تبدو عربة استطلاع، يطل من الفتحة الرئيسية ضابط، لم يستطع التحقق من الرتبة، يرتدى خوذة، لا يوجد مقاتل فى المجموعة يرتدى خوذة، هل نذهب إلى العدو محتمين بالخوذات؟ الخوذ ثقل إضافى، قال عصام يومًا إن فائدتها الوحيدة منع العقل من التفكير.. ضحك الرفاعى، تبدو من بعيد الإنشاءات السريعة القليلة لهذا المطار الذى أنشئ بسرعة فى أواخر الستينيات، صناديق خشبية ملقاة فى العراء، لفات من الأسلاك الشائكة، أكياس بلاستيك فارغة، خطأ يجب التنبيه إليه، لو الصناديق فارغة ستسهم فى تأجيج حريق قد ينشب مع أى قصف، ولو بها معدات فتلك خسارة ما بعدها خسارة، يقترب مطار الإقلاع، يمكنه تمييز الدشم الخرسانية، لم يعرف بعد، هل سيجد الطيارينالذين اعتاد الخروج معهم، هل سيجد النقيب سيد أو سيد بلاعيم كما يسميه رجال المجموعة لتعدد مرات طيرانه فوق حقول البترول ببلاعيم، كذلك الرائد نبيل، هؤلاء الذين اخترقوا به تحصينات الليالى السود، وثغرات دفاع العدو الجوى، قبل مغادرتهم حضر المجموعة فى الضواحى، اجتمع بالرجال، فى البداية استعاد أيام ما قبل وقف إطلاق النار، قال إن اليوم يومهم، والسنوات التى انقضت ما هى إلا مقدمة لهذا اليوم، قال إن الشغل الحقيقى سيبدأ من اليوم، قال لابد من إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بالعدو، سيمضون إليه فى المواقع التى يعرفونها جيدًا، وتلك التى يجهلونها، وأن يستعدوا لتلبية أى واجب قتالى يطلب منهم، قال إن الوضع يختلف اليوم، إنهم لا يعبرون إلى الشرق بمفردهم إنما هم الآن جزء من كل، قال إن خطة الهجوم على بلاعيم مصدق عليها من القيادة، يجب تحويل كل شبر إلى جهنم.. أشار إلى نموذج مجسم من الجبس، تطلع الرجال وكأنهم ينظرون من خلال منظار يصغر الأشياء مياه الخليج، الصهاريج الضخمة المحاطة بسواتر دائرية من الطوب الأحمر، مواقع المدفعية المضادة، محاور الطرقات الرئيسية، مبانى الإدارة، ميس الطعام، مواقع الحراسة القريبة من الخليج، أشار إلى النقاط المحتمل أن يدفع العدو إليها بكمائن ليلية.. قال إن الهدف هو الصواريخ وكل عدو يتحرك هنا أو هناك، كل عدو حى، سيتم الهجوم بطريقة من طريقتين، قال إنه يود لو سمع أى ملاحظات، طافت نظراته تستحث، تشجع، أمامهم سبع عشرة دقيقة للتحرك، من غير المسموح به إطلاقًا مناقشة أى تفاصيل بعد مغادرة هذه القاعدة، ممنوع بشكل مطلق أى استفسار هامس أو جانبى، كل التعليقات حتى المرحة يجب أن تقال هنا، تساءل أبو الفضل عن المدى الذى يمكن أن تهبط إليه الطائرات فى حالة تنفيذ الخطة الأولى؟ قال الرفاعى إنه أقل ارتفاع ممكن، جالت عيناه مرة أخرى فى الملامح، بعد لحظات من الصمت تناول لفافة صور، فردها على امتداد جسده، بدأ أصبعه يقوم بالإشارة، هذه الصور التقطت بواسطة الاستطلاع الجوى منذ اثنين وسبعين ساعة، قال إن كل ما استجد منذ إعداد الماكيت نقطة استطلاع جوى وموقعها هنا، تقدم كل منهم إلى الصور، تفحصوا الخطوط والظلال، فى الدقائق القليلة المتبقية أتم جولته السريعة المعتادة والتى يسمونها «اللمسات النهائية .» يتوقف الميكروباص بالقرب من مبنى منخفض، للحرب هنا ملامح وتجاعيد، يقفز الرفاعى، رصد نظرة حادة فى عينى العقيد علاء، القتال عند علاء يعنى الالتحام،والمباغتة ثم إطفاء البريق فى العيون.. كل منهم ادخر كثيرًا من الصرخات داخله طوال الأعوام الثلاثة الماضية،قال الرفاعى لعلاء بعد العودة من لسان التمساح أود أن تصغى إلى نفسك يومًا، من يرك أثناء الاشتباك لا يتخيل أنك طبيب وطبيب أعصاب بالذات، قال علاء إن الطبيب يداوى الجراح المحدودة أما نحن فنعالج جراح التاريخ، أثناء القتال يشتبك بالواقع والمصير واللحظة ويسدد الطعنة قبل أن تناله الطعنة المقابلة، يتلاشى تمامًا، يتعايش فيه الوعى واللاوعى، الرفاعى يرصد كل التفاصيل، لا يفلت منه أى جزء من الموقف، لا الملامح ولا نهاية مسارات الشظايا، لا يفقد الرؤية فى سحابات الدخان غليظة القوام، فى اللحظة يتنبه للخطر المباغت الذى يطل فجأة من قلب الدوامات واختلاط الرواح بالمجىء، عندما يتبادل الجنوب والشمال مواضعها وتصبح الدائرة خطًا مستقيمًا والواحد يغدو اثنين، قال علاء إن القتال الحقيقى هو: الالتحام بالسلاح الأبيض، ليس القصف بالطيران أو المعارك التصادمية بالدبابات. هيا يا وحوش.. يتنحى بالعقيد علاء جانبًا، يتساءل علاء.. - يعنى هل تعذر توفير الجهد المطلوب؟ ينظر إليه الرفاعى معاتبًا.. - لا داعى للحدة.. هذه الحدة ستحتاج إليها بعد قليل.. صمت لحظة.. لا تنس أن الحرب مشتعلة على طول الجبهة.. نحن لا نعمل بمفردنا.. يبدو أن العقيد علاء لم يقتنع، لا يريد أن يسب ويلعن فى هذا اليوم كعادته عندما يواجه أمرًا لا يعجبه، يتقدم الرفاعى باتجاه ثلاث طائرات هيلوكبتر، أزيح عن كل منها غطاء التمويه، يصافح الطيارين، يتحدث إليهم، يرتدى قفازه الجلدى الخفيف. ليتأكد كل منكم من ضبط زوايا المدافع..تحين اللحظة التى سيفترقون فيها، يثب العقيد علاء إلى الطائرة رقم 2، فى أثره المساعد أبو الحسن.. قبل أن يختفى أبو الفضل فى جوف الطائرة ينظر إلى الرفاعى، ما يمكن قوله كثير لكن الألفاظ شحيحة، الرفاعى مطمئن الآن كأنهم لم ينقطعوا عن الخروج معًا طوال الأعوام الثلاثة الماضية، يشير إلى الجاويش مصطفى. -هيا يا وحش..