الزمان: 1 أكتوبر 1970م المكان: المقر السري لمنظمة سيناء العربية في فيلا معزولة بالإسماعيلية كان الصمت يسيطر على المكان تماما، فيما عدا صوت الجماهير الهادر المحزون، الصادر من الراديو، كأنه نواح شعب: الوداع يا جمال .. يا حبيب الملايين ثورتك ثورة كفاح .. عشتها طول السنين إنت عايش في قلوبنا .. يا جمال الملايين إنت ثورة، إنت جمرة .. لاجل كل الشقيانين وصل "الرفاعي" في سيارته الخاصة لفناء الفيلا بأشجاره اليابسة في الخريف، كان بملابسه المدنية، التي غلب عليها اللون الرمادي، وحذاء رياضي خفيف. توقف للحظة على السلالم الخارجية للفيلا عندما تناهى إليه صوت الجنازة، ثم استمر صاعدا، بملامح متجهمة، وعيون غائمة، لا تخطئها أي عين عرفته من قبل. كان معظم من استمروا في المجموعة بعد تغيير هويتها لتصبح "منظمة سيناء العربية" موجودين في الغرفة، عدا من عاد لوحدته بعد انتهاء المجموعة 39 قتال: الدكتور "محمد عالي نصر"، الرائد "رجائي عطية"، والرائد"وسام عباس"، والنقيب "محيي نوح"، والملازمون "رفعت الزعتراني"و"مجدي عبد الحميد" و"محسن طه"، ومعهم من ضباط الصف "عبد المنعم غلوش" و"سميرنوح" و"علي أبو الحسن"، ومن الفدائيين المدنيين كان هناك"ميمي سرحان" و"إبراهيم سليمان". والجميع قد جلس سواء على المقاعد، أو على المكتب الوحيد في الغرفة، أو على الأرض، الجميع منصتون لصوت الجماهير المنبعث من جهاز الراديو. كان البعض لا يملك دموعه من لوعة الحزن على وفاة القائد. كان البعض يدخن بشراهة وهو يستمع للصوت الشجي، وكان الكل حزينا، ذلك الحزن العميق الذي يغيب عن العين رؤية الشمس، ويلغي أي تصور للغد. وفجأة .. فتح الباب ليدخل للغرفة العقيد "إبراهيم الرفاعي"، ينظر إليهم لحظة ثم يصيح فيهم بصوت قوي: - انتباه .. الكل انتباه. يستجيب العسكريين فورا، والعجب بداخلهم، فما كانت تلك الطريقة الجافة مألوفة لهم من قائدهم إلا خلال تدريبات الصاعقة، لكن أن يدخل الحجرة، بدون تحية، ومعطيا أمرا بوقفة انتباه!! مع ذلك استجابوا فورا بسليقة العسكري. أما المدنيان الأقل خبرة بشخص "الرفاعي" فارتبكا للحظات ثم وقفوا عندما وجدوا العسكريين يستجيبون لحرفية الأمر. وقف العقيد "الرفاعي" نفسه أمامهم وقفة انتباه، ضاما ساقيه وذراعه اليمنى مضمومة لجنبه، غير أن يده اليسرى كانت تضغط على جدار بطنه، وهو يصيح فيهم بصوت هادر: - الجماهير ممكن تحزن، وتبكي براحتها .. احنا معندناش رفاهية الدموع. احنا جنود في معركة، حماسنا يتحول نار على عدونا، فرحنا يتحول نار على عدونا .. كمان دموعنا .. لازم تتحول نار على عدونا وعدو "عبدالناصر". ولما يموت مننا حد – حتى لو كان القائد الأعلى – نعمل إيه؟ كابتن"غزالي"[1] كان بيقول نعمل إيه يا مقاتل"إبراهيم سليمان"؟ ارتبك الفدائي السويسي "إبراهيم سليمان" للحظة، لم تسعفه الذاكره في الموقف المتوتر بما يقصده القائد، فساعده"الرفاعي" موضحا السؤال: - عضم إخواتنا … ؟ - عضم إخواتنا نلمه نلمه .. نلمه نسِنُه ..نسنه ونعمل منه مدافع .. وندافع .. ونجيب النصر لمصر. - هو ده .. عضم عبد الناصر نلم … زاد الألم في معدته، فتقلص وجهه للحظة، وزادتيده ضغطا عليها. خيل لهم أنهم يرون لمعة في عينيه كأنها دموع يحتويها، ويرفض أنتغلبه وتفلت، لكنه استمر يقول: عضم عبد الناصر نلمه .. ونسنه .. ونعمل منه مدافع.. وندافع .. ونجيب النصر لمصر. هي دي وصية جمال عبد الناصر لي في آخر مرة شفتهفيها، وآخر كلمة قالها لي كانت "عايزكم تاكلوا الصهاينة مش تدبحوهم بس"… عبد الناصر كان قائد، والقائد مبناش بنيان هش ينهار بموته. القائد أسس فكروعقيدة نضال.. علشان كدة الصهاينة لازم يسمعوا صوت السلاح في سينا ..ويسمعوهالليلة. علشان هم الليلة بيحتفلوا بموت عبد الناصر، ولازم ميتهنوش على الفرحة،واللي مننا في عينه دمعة .. يخرجها طلقة من مدفعه .. الدموع على عبد الناصر لازمتكون نيران. هدأت نبرته قليلا وهو يسألهم: - في حد عنده سؤال؟ - أيوة يا افندم، مين اللي هيمسك البلد دلوقت؟ هكذا سأله المساعد أول "علي أبو الحسن" فأجاب: - مش مهم مين. فيه ريس هييجي وهيكون هو القائدالأعلى للقوات المسلحة. قالها "الرفاعي" ثم خطف كلاشينكوف كان على المكتب، ورفعه بيمناه وهو يقول: - وإحنا هنكون وراه .. طول ما هو رافع السلاح. ثم سأل الدكتور "عالي نصر" عن الإشاعات التي تدور حول سبب الوفاة وهل هو القلب حقا؟ فأجابه "الرفاعي": - مش مهم. عبد الناصر مكانش له غير عدو واحد، والعدو ده قدامكم على الضفة الشرقية. سواء كان القتل بالإرهاق أو بالسم، وسواء كان الدراع اللي نفذ مصري أو عربي أو أجنبي، القاتل هو ده .. وهو ده اللي لازم يدفع التمن. قالها وهو يشير نحو القناة بيده، ثم وقف أمامهم من جديد ثابتا، وهتف فيهم: - نقولها مع بعض: عضم عبد الناصر .. - نلمه نلمه .. ونسنه .. نسنه ونعمل منه مدافع.. وندافع .. ونجيب النصر لمصر. هكذا هتف الجمع كله بصوت هادر وقد انتقلت إليهم روح قائدهم، وتحول الحزن إلى نار في الصدور تريد أن تنطلق. - الكل على العربيات الجيب لأرض التدريب ..الليلة هنهاجم طريق دوريات للعدو في سينا قالها وهو يستدير تاركا الغرفة ليسبقهم للجيب، بينما قرحة معدته تشتعل. كان يريد أن يحول نيران قلبه وقلوبهم لنار تحرق عدوه، كان يريد أن تكون الليلة مصداقا لوصية عبد الناصر. وقد كانت. واستمرت نيرانا تشتعل في سيناء طوال ثلاث سنوات من وقف إطلاق النار الرسمي … حتى حانت المواجهة الكبرى.