الزمان: 21 يوليو 1970م المكان: غرفة مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، بمنزله في منشية البكري أمس، تلقى العقيد "إبراهيم الرفاعي" مكالمة هاتفية من اللواء "صادق" يبلغه فيها بلقاء الفريق"فوزي" في مكتبه في السابعة والنصف من مساء الغد. في الموعد المحدد كان"الرفاعي" يقف عند بوابة وزارة الحربية، ويبلغ جندي الحراسة بالموعد. فوجد تعليمات عند الجندي بأن يبلغ الفريق "فوزي" تليفونيا فور قدوم "الرفاعي"، وطلب منه الجندي بأدب أن يتفضل معه، حيث قاده لسيارة وزير الحربية، حيث أدى له السائق التحية العسكرية وهو يفتح له الباب الخلفي. لم تمر خمس دقائق حتى كان السائق يفتح الباب المقابل ليركب الفريق أول "محمد فوزي" بجواره، وهو يقول: - معلش يا إبراهيم، معندناش وقت علشان كدة مقدرتش أرحب بيك في المكتب الأول. - ولا يهمك يا افندم، بس احنا رايحين فين؟ - منشية البكري. الريس عايزك يا "إبراهيم"، ومعادنا الساعة تمانية بالظبط. قالها الفريق "فوزي" وهو يعطي الأمر للسائق بالانطلاق. الرئيس "جمال عبد الناصر" يريد لقاءه!!! هزت المفاجأة كيان القائد الذي لم تهز المعارك قلبه. لقاء مع "عبد الناصر"؟!! وفي منزله! وفي هذا الوقت تحديدا؟ الوقت الذي تتردد فيه أقوال عن قبول "عبدالناصر" لمبادرة روجرز، لوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة شهور. ما هو سبب المقابلة؟ ولماذا في المنزل؟ قدر ما كان مشتاقا لهذه المقابلة قدر ما تضاربت المشاعر بداخله الآن، فلو كان رجاله يعتبرونه بطلا وقدوة، فهو يعرف جيدا من هو بطله وقدوته، إنه "عبد الناصر" نفسه. الرجل الذي هزم الهزيمة، وانكسر على صخرة عزيمته الانكسار قبل الثامنة بدقائق كان الفريق"فوزي" والعقيد "الرفاعي" يجلسان في الصالون المقابل لمكتب الرئيس "عبد الناصر". أخذ "الرفاعي" يتأمل الغرفة البسيطة التي شهدت صناعة أخطر القرارات في تاريخ مصر المعاصرة. جاءت القهوة التي طلباها وجاء معها فنجان ثالث وضعه النادل أمام الفوتيه المقابل لهما. لم يطل الانتظار. فتح الباب ودخل الرئيس.أقبل مبتسما ابتسامته الودودة التي تكشف ثناياه وهو يقول بصوته المميز: - يا أهلا بأبطالنا. قام القائدان يؤديان التحية العسكرية للرئيس، بينما مد الرئيس يده مصافحا الفريق فوزي وهو يقول: - أهلا يا فوزي. ثم اتجه بكفه الممدودة ليصافح يد"الرفاعي"، وبيده الثانية كان يسحب كتفه ليعانقه، ثم ينظر في عينيه وهو يقول: - نورت منشية البكري يا بطل، فضلت إننا نتقابل هنا وبعيد عن الصحافة والإعلام، علشان الصهاينة بالفعل مركزين معاك إنت ومجموعتك ومستهدفينك، ومش عاوز أزود الاستهداف .. اللقاء ده اتأخر كتير، بس إنت عارف. - كان الله في العون يا افندم. جلس الرئيس على الفوتيه المقابل وطلب منهما الجلوس بيده وهو يقول: - إن شاء الله هقابل كل أبطال المجموعة 39 قتال، وأشكرهم بنفسي واحد واحد. - أكيد ده هيكون دافع كبير ليهم يا افندم. هكذا أجاب "إبراهيم" وهو ينظر لوجه الرئيس. لقد رآه من قبل في الجبهة أثناء الزيارات الميدانية، لكن اليوم كان اللقاء مختلفا، فهو عن قرب، وليس وسط الجموع. بعد اللقاء حاول "الرفاعي" كثيراأن يتذكر بعض التفاصيل التي أحاطت باللقاء، ما هو لبن بدلة الرئيس ورابطة عنقه مثلا؟ فلم يستطع، إنه الحضور الطاغي الذي لا تذكر معه إلا وجه الرئيس وعينيه. من تحدثوا عن صعوبة النظر لعينيه كانوا يقصدونها في وقت التجهم، أما عندما يكون مبتسما، فكانت عيناه آسرتان بحيث لا ترى غيرهما. كان الشيب بعد النكسة قد غيب معظم سواد شعره رغم أنه في مطلع الخمسينات، لكن قوة عيناه بقيتا كما كانت قبلها، عينان متقدتان بخليط العزم والكبرياء. رشف الرئيس من فنجان قهوته قبل أن يتجه نحوه بالحديث قائلا: - إنت عارف يا "إبراهيم" إن وضعنا الاستراتيجي اتحسن كتير خلال الشهور اللي فاتت، واعتبارا من مايو تحديدا. ساعد على ده إن بعد زيارتي لموسكو في مارس، ربنا قدرنا ووصلت بطاريات صواريخ الدفاع الجوي سام 3 ، وكمان 6 أسراب من الميج 21 جي إس، عشان كدة الرجالة في الطيران قدروا يوجعوا إسرائيل جدا لما حاولت تهدد العمق، ردا على عملياتكم الناجحة في سينا. - تمام يا أفندم. عاد الرئيس بظهره للخلف مستندا على مسند الفوتيه، ومالت رأسه لليسار قليلا كعادته عندما يتحدث في موضوع هام. وقال: - وعارف كمان إني رفضت مشروع "روجرز"[1] لتسوية منفردة مع مصر، وخرجت في خطاب وقلت: القدس قبل سينا، والجولان قبل سينا. وبعدين .. في .. 19 يونيو اللي فات، المستر "روجرز" طرح علينا مبادرةجديدة، بوقف إطلاق النار 3 شهور. - وحضرتك لم تعلن قبولها رغم مرور أكتر من شهر، وكمان إسرائيل لم تعلن قبول ولا رفض، التصريحات اللي رفضت خرجت من أطراف غير رسمية في تل أبيب. هكذا أجاب "إبراهيم" وهو يتمنى في داخله ألا يكون الحديث بمناسبة قبول المبادرة. هنا علق الفريق "فوزي"قائلا: - إسرائيل هي اللي طالبة الهدنة يا"إبراهيم"، "روجرز" مش عاملها من راسه. لكنهم منتظرين موقفنا قبل ما يعلنوا موقفهم. - تمام كدة. قالها "عبد الناصر" مصدقا على كلام "فوزي" قبل أن يستأنف كلامه: - أنا طلبت أقابلك النهاردة يا "إبراهيم" علشان أقولك إني قررت أقبل مبادرة "روجرز". واتفقت مع "فوزي" إني أعلن ده في خطاب عيد الثورة اللي جاي، بعد بكرة. متوقع إن إسرائيل تعلن موافقتها بعدها، وإن وقف إطلاق النار يسري بداية من الأسبوع الأول من أغسطس. لم يستطع "إبراهيم" أن يتغلب على الوجوم الذي كسا وجهه، ونظر نحو الرئيس وهو يتطلع لتفسير دون أن يعلق. ابتسم الرئيس وهو ينظر إليه، ويقول: - أنا عارف كويس شعور المقاتل اللي جواك دلوقت. لكن إنت كمان قائد، والقائد يعرف إمتى يضرب وإمتى يقف وقفة تعبوية - لو سمحت لي يا ريس، هل السبب هو استكمال بناء منظومة الدفاع الجوي؟ - إحنا أشعنا كدة فعلا، حتى جوة الجيش، لكن الحقيقة اللي "فوزي" و"صادق" عارفينها كويس إننا انتهينا بالفعل من بناء حائط صواريخ السام2 وسام3، ودلوقت الطيران الإسرائيلي معادش يقدر يطير بحرية فوق القناة أو الضفة الغربية. مش دي المشكلة يا إبراهيم. مال الرئيس بجزعه للأمام مقتربا من محدثه وهو يعقد كفيه أمامه ويقول بصوت هاديء وبنبرة تدل على أهمية ما يقول وسريته: - يا "إبراهيم" .. احنا قريبين قوي من يوم المواجهة، أول ما يكمل وصول شحنات السلاح والمقاتلات الروسية الجديدة. العبور يقتضي إننا نأمن قواتنا اللي هتعبر للضفة الشرقية، وبالتالي لازم نحرك منظومة الصواريخ لأقرب نقطة ممكنة على الضفة الغربية. لأن دورها مش هيقتصر ساعةالمواجهة على حماية العمق، هيصبح من ضمنه حماية القوات اللي هتعبر، على الأقل لمسافة عشرة كيلومتر داخل سينا. نزلت هذه العبارة بردا وسلاما على قلبه من ناحية الهدف العام، فيوم العبور اقترب بالفعل إذا.. لكنه من ناحية أخرى لا يعرف كيف ستمر الشهور الثلاثة دون عمليات في سيناء. كانت الحيرة ظاهرة على وجهه عندما قال الفريق "فوزي": - لو سمحت لي يا ريس .. الريس عنده مفاجأة تانية ليك يا "إبراهيم"، هتحل لك مشكلة وقف إطلاق النار. هز "عبد الناصر" رأسه موافقا وهو يقول: - إنت ورجالتك هتكملوا رغم وقف إطلاق النار. بس من غير البدلة العسكرية والرتب. في شكل منظمة مقاومة شعبية للاحتلال. المخابرات الحربية رتبت بالفعل مع أبناء منطقة القناة وبعض قبايل سينا اللي هتوفر لكم الغطا اللي تشتغلوا من خلاله. "فوزي" و"صادق" هيتكلموا معاك في كل التفاصيل. أنا قابلتك النهاردة مخصوص علشان عاوز عزيمتك وعزيمة رجالة المجموعة تفضل زي ما هي رغم إعلان وقف إطلاق النار. انفرجت أسارير "إبراهيم" وعادت الابتسامة لوجهه للمرة الأولى منذ سمع عبارة قبول المبادرة . وقام الفريق"فوزي" يستأذن في انصرافهما وهو يقول: - هنتكلم مع "صادق" في مكتبه بكرةالصبح في كل التفاصيل. خدنا من وقتك كتير يا ريس. - شرفتوني ثم يتجه الرئيس مصافحا البطل "الرفاعي"، ويبتسم وهو يحرك سبابة يسراه منبها بود: - عزيمة الرجالة يا إبراهيم. عاوزهم ياكلواالعدو مش بس يدبحوه زي يوم لسان التمساح .. الله يرحم الفريق "رياض"، كان نفسي يبقى معانا في المواجهة الكبيرة علشان يجني اللي زرعه معاكم .. لكن ..الأعمار بيد الله. - بمناسبة لسان التمساح، احنا آسفين يا ريس لوكنا سببنا مشكلة في الأممالمتحدة - ادبح الصهاينة براحتك، وسيب الأممالمتحدةعلي أنا. هكذا ذكر الرئيس تضحية الفريق "رياض"، رئيس الأركان الذي استشهد على خط النار في 9 مارس 1969م. فعبر "الرفاعي" ومجموعته يوم ذكرى الأربعين: يوم19 أبريل، ليدمروا موقع المعدية رقم 6 على لسان التمساح التي أطلقت القذيفة على الفريق الشهيد، ويذبحوا أفرادها بسونكي الكلاشينكوف، ثم يحولوا دشمها الثلاثة إلى كتلة لهب. وهو ما دفع إسرائيل للتقدم بشكوى للأمم المتحدة لاعتبارهم أسلوب الذبح بالسونكي تمثيلا بالجثث. لم يكن الرئيس "جمال عبد الناصر" يعلم وهو يذكر"رياض" ويتمنى لو كان حيا، أنه هو نفسه لن يجني ما زرعت يداه، وسوف يلاقي ربه، في غضون أقل من شهرين من هذا اللقاء. بعد أن فتح الطريق أمام المجموعة 39 قتال لنضال جديد، وبرغم وقف إطلاق النار، تحت اسم وشكل جديد، هو منظمة سيناء العربية. ————————————————- [1] وزير خارجية الولاياتالمتحدة،