تشهد الساحة الفرنسية خلال المرحلة الراهنة تراجعا ملحوظا في شعبية الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند نتيجة تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد والتي زاد من حدتها التورط الفرنسي في مالي. وكشفت آخر استطلاع الرأي أجراه معهد "ايفوب" الفرنسي نهاية الشهر الماضي أن شعبية الرئيس الفرنسي انخفضت إلى 37%، وهو أقل مستوى تصل إليه شعبية الرئيس أولاند منذ انتخابه رئيسا للبلاد في مايو الماضي. ووفقا لهذا الاستطلاع أعرب 62% من المستطلعة أرائهم عن استيائهم من الرئيس الفرنسي وسياسته، في حين أعرب 37% عن رضائهم بسياسته. ويلاحظ أن شعبية الرئيس الفرنسي تعتبر مستقرة إلى حد كبير لدى الطبقات الاجتماعية الميسورة ولكنها انخفضت بوضوح من 8% إلى 11% لدى الطبقات البسيطة مثل العمال والموظفين. ووفقا للمؤشرات فإن شعبية الرئيس الفرنسي وحكومته لم تتوقف عن التراجع منذ مايو الماضي، حيث بلغت 61% في مايو 2012، وانخفضت إلى 41% في نوفمبر الماضي، إلى أن أصبحت 37% فقط في فبراير 2013. ويرى عدد كبير من المحللين أن التراجع المستمر في شعبية الرئيس الفرنسي يرجع بالأساس إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تمر بها البلاد، والتي زاد من حدتها التورط العسكري في مالي الذي شكل حملا ثقيلا على ميزانية الدولة، حيث تجاوزت تكلفة الحرب على مالي 100 مليون يورو حتى الآن. وعلى الرغم من أن العملية العسكرية في مالي لعبت في بعض الأوقات دورا في ارتفاع شعبية الرئيس أولاند لأنها كانت مدعومة من قبل الرأي العام الفرنسي إلا أن استمرار المشكلات الاقتصادية والارتفاع الهائل في معدلات البطالة أدى بدوره إلى تزايد حالة الاستياء لدى الشعب الفرنسي إزاء عجز الرئيس عن الوفاء بتعهداته الانتخابية التي تركزت بالأساس على النهوض باقتصاد البلاد العليل وخلق فرص عمل للملايين من العاطلين. وتعيش فرنسا أزمة اقتصادية خانقة، فقد بلغت معدلات البطالة أعلى مستوياتها بعد أن تجاوزت نسبة العشرة بالمائة، وبلغ عدد العاطلين عن العمل أكثر من ثلاثة ملايين شخص مسجلا بذلك أعلى مستوى منذ يوليو 1997 ومقتربا من أعلى مستوى على الإطلاق عند 3.196 مليون شخص. وبلغت نسبة البطالة بين الشباب، وبالأخص في الفئة العمرية من 15 إلى 24 عاما، نحو 27% وهو ما يوضح أنهم الفئة الأكثر تضررا من الأزمة. وتعاني فرنسا عجزا في ميزانها التجاري يقدر بنحو 62.5 مليار يورو، كما تجاوزت معدلات التضخم نسبة 1.6 في المائة بينما بلغ معدل النمو 0.1\% خلال عام 2012. وانخفض أداء النشاط التجاري للاقتصاد الفرنسي الذي بلغ أقل مستوى له منذ أربع سنوات، مما أثار مخاوف من دخول البلاد في دوامة من تراجع النمو. فقد انكمش قطاع الخدمات في فبراير الماضي بأسرع وتيرة له منذ أربع سنوات حيث أظهر مؤشر مؤسسة ماركت لمديري المشتريات أن معدل الانكماش في قطاع الخدمات بلغ 42،7 نقطة في فبراير الماضي مسجلا بذلك أدنى مستوى له منذ فبراير 2009. بينما ارتفع مؤشر قطاع الصناعات التحويلية إلى أعلى مستوى له خلال شهرين وبلغ 43.6 نقطة. غير أن المؤشرين لايزالان أدنى بكثير من مستوى 50 نقطة الذي يفصل بين النمو والانكماش. وامتدت الأزمة الاقتصادية لتشمل صناديق الضمانات الاجتماعية التي أصبحت تواجه مخاوف من عدم إمكانية تمويلها وسد العجز فيها. فقد بلغ العجز في صناديق تعويضات البطالة نحو 18.8 مليار يورو أي 13.7% عام 2012، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العجز إلى 18.7% خلال العام الجاري. كما أن هناك مخاوف من عدم قدرة صناديق التقاعد على تسديد مستحقات المتقاعدين الشهرية التي يسهم في تمويلها 22 مليون فرنسي. ويعتبر الإبقاء على الاحتياطات المالية في هذين الصندوقين مسألة حيوية، حيث أنها تلعب دورا مهما في أوقات الأزمات الاقتصادية وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، لأن زيادة نسبة البطالة تؤدي تلقائيا إلى تراجع تمويل هذين الصندوقين الاجتماعيين وهذا ما حدث مع نظام التقاعد العام في عام 2011 عندما سجل عجزا ب 1.7 مليار يورو. وكنتيجة لما سبق فقد كثرت المطالبات خلال الفترة الأخيرة بضرورة إصلاح نظام التقاعد وتغيير قواعد تمويل هذه الصناديق بشكل يزيد من حصة المستخدمين في هذه العملية، وذلك من خلال زيادة فترات العمل لزيادة المساهمة في الصناديق على الأمد الطويل، وأيضا من خلال زيادة الاقتطاعات الشهرية. ولا يلوح في المدى القريب بوادر تفاؤل في تحسن الأوضاع الاقتصادية في البلاد. فكل المؤشرات والبيانات تتوقع مزيدا من البطالة واستمرار انعدام النمو الاقتصادي. ويحاول المسئولون الفرنسيون دوما تبرير عدم قدرة الحكومة الوفاء بتعهداتها وكان آخرها ما صرح به الرئيس أولاند من أنه لن يتمكن من تحقيق التزاماته بخفض العجز في الموازنة العامة هذا العام بنسبة 3 في المائة من الناتج الداخلي الخام حيث أنه يصعب تحقيقه في ظل الوضع الاقتصادي الحالي للبلاد. وفي هذا السياق أقر وزير الموازنة الفرنسي جيروم كاهوزاك يوم الأحد الماضي بأن اجراءات التقشف، سواء كانت فرض المزيد من الضرائب أو استقطاع النفقات، ستؤدي إلى انكماش اقتصادي على المدى القصير، الأمر الذي سيحول دون تطبيق المزيد منها خلال العام الجاري. وبناء على ذلك قررت الحكومة تأجيل هذا الإجراء، الذي يهدف إلى تقليص النفقات العامة بمقدار مليار و500 مليون يورو، إلى العام المقبل. وتماشيا مع ذلك رصدت الحكومة الفرنسية مبلغ 6.5 مليون يورو للقيام بحملة إعلانية تؤكد عزمها على محاربة البطالة وتوفير فرص العمل وسد العجز في الموازنة العامة، والسعي لتوفير الأجواء اللازمة لعودة النمو الاقتصادي. كذلك أقر مجلس الوزراء مؤخرا نظام "عقود التشغيل المستقبلية" لمجابهة البطالة، وهو عبارة عن عقود عمل للشباب الذي ليس لديه مؤهلات للدخول إلى سوق الشغل، الهدف منه خلق 100 ألف وظيفة في عام 2013 ألفين وثلاثة عشر و50 ألف في عام 2014. وتسعي الحكومة الفرنسية للتوفيق بين قراراتها وقرارات القمم الأوروبية وإقناعها المواطنين بأنها تعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد وتغيير الواقع اليومي للفرنسيين الذين يرون قدرتهم الشرائية تتراجع بفعل الضرائب والبطالة والتضخم والأزمة. ورغم المساعي الدؤوبة للحكومة الفرنسية لمجابهة الأزمة غير أن الوضع يزداد صعوبة يوما بعد الآخر خاصة أن انخفاض القدرة الشرائية للفرنسيين، إضافة إلى زيادة معدلات البطالة، يجعل من الصعب المراهنة على السوق الداخلية أي على الاستهلاك الداخلي لتحقيق النمو الاقتصادي. ويبقى الأمل المرتجي للرئيس أولاند وحكومته هو تحقيق ارتفاع في الصادرات لمواجهة العجز في الموازنة العامة والاكتفاء بقدر معين من الضرائب الجديدة لهذا العام، وفرض مزيد من الإصلاحات التي قد يتقبلها الفرنسيون بمرارة، حيث يجري الحديث عن تمديد سن التقاعد، وإجبارهم على المساهمة بتمويل صناديق التقاعد، وهي أول مرة في تاريخ البلاد تطرح فيها مسألة مشاركة المتقاعدين في تمويل العجز في صناديق التقاعد، فضلا عن إصلاح صناديق تعويضات البطالة.