لطالما سمعنا أن الحرب خدعة، وعنصر المفاجأة ضرورى ولا مفر منه فى أى معركة إذا أردت أن تظفر بنصر محقق، فكانت المخابرات العامة خير صانع للخدعة، تغلفها فى مجموعة من الأكاذيب ليلتقطها العدو ويبتلع الطعم ويضع استراتيجية بناء على معلومات مغلوطة وغير صحيحة قدمها رجال الظل للموساد الإسرائيلى قبيل الحرب فكانت سبباً فى تحقيق أكبر خداع استراتيجى على مستوى العالم فى حرب أكتوبر 1973. قبل الحرب بأسبوع واحد فقط كانت هناك اجتماعات متواصلة فى جميع قطاعات جهاز المخابرات العامة، الكل يبحث عن أصغر الثغرات التى من الممكن أن تحدث ساعة الحرب ويضع لها حلولاً، بل كانوا يصنعون خططاً بديلة، ولم تكن تلك الحلول لهذه المشكلات التى تم دراستها قبيل الحرب عادية وبالتالى كانت تحتاج إلى حلول غير تقليدية، يتخللها خيال جامح أكثر من العقل المنطقى، وكانت كل غرفة فى جهاز المخابرات تكتظ بدخان السجائر المصرية حتى تلمع فكرة فريدة فى رأس ضابط أطلق لخياله العنان ليضع خطة «جهنمية» يكون السبب والمسبب فيها كافياً لإقناع العدو الصهيونى أن ما يشاهده أو يقرأه أو يسمعه طبيعى ولا يخرج عن الروتين المصرى. كانت إحدى المشكلات التى واجهت رجال المهام الصعبة والتفكير العميق فى ذلك الوقت هو كيف سيتم استيعاب العدد الهائل من المصابين والجرحى ساعة الحرب فى المستشفيات المصرية، فقد تم دراسة الوضع عما إذا قامت الحرب وتوصلوا إلى أن عدد المصابين والجرحى فى الموجة الأولى للعبور قد يصل إلى عدد ضخم يحتاج إلى عدد مساوٍ له فى التجهيزات والأسرة الفارغة للجرحى، وبالتالى كيف يتم إخلاء العدد الكافى من المستشفيات قبيل الحرب بأسبوع استعداداً لاستقبال المصابين من الجنود والضباط دون أن يشعر العدو أن مصر تجهز للعبور عن طريق إخلاء مستشفياتها استعداداً للحرب. من هنا ظهرت فكرة غير متوقعة لرجال المخابرات المصرية، تعتمد على المنطق والحيلة المقنعة التى لا يشك فيها العدو ولا تلفت الأنظار لتحركات مصرية مريبة قد تسوقه فى النهاية إلى استنتاجات خاصة بالتجهيزات لعبور الضفة، فتوصلوا إلى أن أنسب طريقة لإخلاء المستشفيات فى ذلك الوقت، هو إشاعة مرض يسبب الموت، مما يدفع وزارة الصحة لاتخاذ تدابير وقائية لحماية المواطنين واتخاذ إجراءات خاصة بالمستشفيات التى انتشر فيها الوباء، وكان الاختيار يقع على مرض التيتانوس فى ذلك الوقت والذى كان يؤدى للوفاة. ولكن كانت المعضلة أن يتم انتشار «التيتانوس» فى أكثر من مستشفى بمدى زمنى واحد، وهو ما قد يؤدى إلى إثارة الشكوك لدى جهاز الاستخبارت الإسرائيلى ليبحث ويحلل تلك الظاهرة الغريبة والتى قد تقوده فى النهاية إلى نتائج خاصة بإخلاء المستشفيات لهدف استراتيجى وليس لهدف ظاهرى، وبالتالى كان لابد من الاعتماد على البلبلة لنشر الخبر بعد وضع الطعم فى مستشفى واحد فقط على الأقل وباقى المهمة تكون متروكة للصحافة والإعلام. وكانت وسائل الإعلام سواء المسموعة أو المطبوعة يتولى مراقبتها وتحليل محتواها فريق كامل من جهاز المخابرات الإسرائيلى لدراسة وتحليل الرأى العام المصرى وما يمر به، لعمل تقارير خاصة عن الأوضاع المصرية ومدى استعداد مصر لخوض الحرب، ومن هنا جاءت الفكرة بالاعتماد على أحد الصحفيين ذى الثقل المهنى والشعبى فى جريدة قومية أن ينشر عددًا من المقالات المضادة والمثيرة عن واقعة انتشار وباء التيتانوس بأحد المستشفيات الحكومية وإصابة البعض بالمرض، ليفتح المجال أمام الصحفيين والكتّاب وأصحاب الرأى من الحديث المقلق عن الوباء والحادثة، وتأثير المرض وخطورته على حياة الإنسان، وبالتالى بعد أيام قليلة فقط من إثارة البلبلة وإثارة الرأى العام وتخوف قطاع كبير من المرضى من التردد على المستشفيات الحكومية خوفاً من التقاط العدوى المميتة، يكون لزاماً على وزارة الصحة فى ذلك الوقت أن تقوم بإخلاء المستشفى الذى ظهر به الوباء. وكإجراء احترازى من وزارة الصحة تقوم بفحص وإخلاء عدد من المستشفيات وتعقيمها بعد ورود تقارير بوجود آثار للعدوى وإصابة بعض الأشخاص بالمرض فى مستشفيات أخرى، وبالفعل نجحت الخطة، وتم إخلاء عدد كافٍ من المستشفيات الحكومية وأصبحت الأسرة خالية من المرضى، وجاهزة لاستقبال أبطال الحرب الذين استجابوا لنداء الواجب والكرامة فى العاشر من رمضان، بعد أن جهزت لهم المخابرات العامة مستشفيات شبه خالية مجهزة ومعقمة دون أن يدرك العدو أن كذبة التيتانوس كانت طريقاً لعلاج أبطال العبور.