هل سيأتي اليوم الذي نقول فيه بأن مبارك كان آخر الفراعنة الذين حكموا مصر؟ هل حقا نحن في طريقنا لأن نرى وجها آخر، ونتعامل مع نظام آخر، وطريقة مختلفة لحكم الوطن، بعيدا عن الأوامر الفرعونية وفرمانات المعبد؟ حيرني سؤالي؛ فرحت أبحث في واقعنا الآن عن إجابة، ومكثت أقلب أوراق ما قبل الثورة، ترى ماذا وجدت؟
وجدت حكاية رمزية قديمة كتبتها منذ شهور، للتعبير عن أحوالنا ومصيبتنا في تلك المرحلة البائسة من تاريخ مصر.. كانت تقول:
"يُحكى أن أحد ملوك القرون الوسطى كان يحكم شعبًا حرًا كريمًا، وكان هذا الشعب رغم طيبته وبساطته وعلاقاته الطيبة لا يسكت على باطل أبدًا، ولا يدع الملك أو أي وزير من وزرائه يظلمون أحدًا منهم.
أخذ الملك في حيرته يسأل وزراءه عن الحل.. وكيف له أن يحكم هذا البلد كما يريد، فخرج من وزرائه رجل داهية؛ فأشار عليه باتباع سياسة يسميها "سياسة البيض المسروق"!!! فما تلك السياسة؟
نادَى في الناس أن الملك يريد من كل رب أسرة خمس بيضات من أي نوع.. فقام الناس بجمع البيض والذهاب به إلى قصر الحاكم.. وبعد يومين نادى المنادي أن يذهب كل رجل لأخذ ما أعطاه من البيض.. فاستجاب الناس وذهب كل منهم لأخذ ما أعطاه.. وهنا وقف الوزير والملك وحاشيتهما وهم يتابعون الناس أثناء أخذ البيض.. ترى ما الذي وجدوه؟
وجدوا كل واحد تمتد يده ليأخذ البيضة الكبيرة!! والتي ربما لم يأت بها، وهنا وقف الوزير.. ليعلن للملك أنه الآن فقط يستطيع أن يفعل بهم ما أراد.. فقد أخذ الكثير منهم حاجة أخيه وأكل حرامًا، ونظر كل منهم لما في يد الآخر فلن يتجمعوا بعدها أبدًا..
وعندما مر الزمن.. وقامت فئة واعية تبصر ما فعله الملك بشعبه أخهم الغضب، وباتوا يطالبون بحق الشعب في الحياة الطيبة، فلجأ الملك للوزير الذي أشار عليه ب"سياسة جدول الضرب"!!! فما هذه السياسة؟
أن يستخدم الملك العمليات الحسابية –الجمع والطرح والضرب والقسمة– في تعامله مع هذه الفئة التي تطالب بحقوقها وحقوق الوطن.. كيف؟
أولا يبدأ بعملية "الجمع ".. فيجمع من استطاع منهم حوله، بأن يتقلدوا المناصب، ويأخذوا الأموال والأوسمة؛ فينسوا القضية؛ بعد أن يكسر الملك عيونهم بفضله عليهم.
أما الفئة التي تظل على موقفها وبالضرورة هم قلة فيلجأ الملك " للطرح"؛ فيطرحهم أرضًا بتلفيق القضايا، واستخدام نقطة الضعف في كل واحد منهم، وبذلك يتوارون عن الأنظار؛ إما خجلا أو خلف غياهب السجون.
أما من تبقى -وهم قلة القلة- فإذا خرجوا يهتفون وينددون فالرأي أن يلجأ للعلامة الثالثة من العلامات الحسابية وهي "الضرب"... فضربهم وسحلهم والتنكيل بهم في الطرقات سوف يخيف الباقين من تكرارها.
وهنا نساءل الملك: تُرَى.. ما الذي سيكون عليه حال الشعب؟ فضحك الوزير قائلا: يا سيدي لم يتبق للشعب في معادلتنا سوى علامة واحدة هي "القسمة"!!!
قال الملك: وماذا تعني؟
فأجاب الوزير: أعني أنه لن يكون أمامهم سوى أن يخضعوا ويفلسفوا عجزهم بقولهم: قسمتنا كده؟ ربنا على الظالم؟ يعني على جلالتك!! وده أمر مؤجل ليوم القيامة.. عندها ضحك الوزير، وضحك الملك وضحكت حاشيتهما، وظلت أصداء ضحكاتهم تملأ الآفاق..".
هكذا كنت اتصور مصر قبل الثورة، فماذا بعد أن قامت الثورة..؟ وسقط مبارك طبقا لقصتنا؟
الذي حدث فعلا، أن سقط من كانوا يقولون إن له مُلك مصر، سقط الملك وسقط الوزير وسقطت الحاشية..
خرج الناس غاضبين ثائرين، على كل ألوان الذل.. والقهر.. والفقر.. والإهانة..، ثم عاد الجميع إلى بيوتهم يحلمون بغد أفضل، ووطن حقيقي، ترتفع فيه قيمة الإنسان..
ولكنهم ما لبثوا أن اختلفوا.. حين انتهت معركتهم مع الحاكم، وأخذتهم الحمية والدعوة المحمومة للقصاص، ظلوا يلتفتون وراءهم دون أن يتقدموا خطوة واحدة للأمام، ثم تنازعوا على كراسٍ زائفة في وطن جريح.
لقد ارتفعت أصواتهم بالمحاكمات، وتعالت أصواتهم بالخلافات، في مرحلة كان من المفترض أنهم -كما أعلنوا- يريدون تطهير البلاد..
أرادوا تطهير البلاد، ونسوا تطهير أنفسهم! نسوا البيض المسروق الذي فرقهم وأضعفهم؟ نسوا ما أُطعِموا طوال سنوات القهر والاستبداد، وما أحدثه ذلك في نفوسهم من فُرقة وتناحر وأنانية، كان فساد الحاكم وحاشيته أكبر من أن يظهرها عليهم!
نعم، أرادوا تطهير الوطن، لكنهم لم يلتفتوا إلى نفوسهم ليطهروها هي أيضا..
ولهذا فإن ظني أن الثورة في مصر قد اسقطت كثيرًا من المفسدين أصحاب الحكم والسلطان، ولكن بقي الفساد مسيطرا على سلوك كثير من المحكومين، وكثير من الفراعين الجدد الذين لا يحترمون الرأي الآخر، بل وباسم الديمقراطية يحلمون بأن يكونوا يوما من الحاكمين.
ولله در.. أحب أحبابي وأخلص خلصائي، حين ذكرني بآية حكم مبارك التي ظلت الصحف ترددها ليل نهار، حين قال:
"لا تنس يا أخي أن هؤلاء كانوا دوما يصفون الحاكم بالفرعون، ويعقبونها بقوله تعالى: "فاستخف قومه فأطاعوه".. هكذا ظلوا يرددونها على مسامعنا، ويملؤون بها جرائدنا.. ورغم ذلك فقد ظلوا طوال الوقت وإلى يومنا هذا ينسون تتمة الآية: "فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين"...
نعم لقد أطاحت الثورة ببعض المفسدين.. ولكنها لم تستطع بعد أن تقضي على الفساد.
وبنظرة واحدة على المتصدرين للمشهد السياسي والإعلامي، وكمُّ التعالي والغطرسة التي تطل من الوجوه ولا تخطئها العيون.. وكم الغل الذي لا تخطئه القلوب، وغياب الرؤية الذي لا تخطئه العقول، وقضية البحث عن الذات التي باتت أكبر وأعظم من البحث عن الوطن.
ربما ستصل مثلي لنتيجة مفادها، أن مبارك لن يكون آخر الفراعنة في نظام الحكم في وطني الحبيب!