استقرار سعر الذهب اليوم وعيار 21 يسجل 3170 جنيها    تعرف على سعر الدولار اليوم في البنوك    بأسعار مخفضة.. طرح سلع غذائية جديدة على البطاقات التموينية    ارتفاع جديد.. أسعار الفراخ والبيض في الشرقية الأحد 19 مايو 2024    إعلام فلسطيني: 6 شهداء بقصف على حي الدرج شرقي مدينة غزة    الكرملين: الإستعدادات جارية لزيارة بوتين إلى كوريا الشمالية    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي ملف غزة    هجمات الحوثي في البحر الأحمر.. كيف تنسف سبل السلام؟    ميدو يوجه نصائح للاعبي الزمالك في نهائي الكونفدرالية    الأقوى منذ الصيف الماضي.. "مركز تغير المناخ" يٌحذر من طقس الساعات المقبلة    ظاهرة عالمية فنية اسمها ..عادل إمام    زعيمة حزب العمال الجزائري لويزة حنون تعلن ترشحها للانتخابات الرئاسية    خبير اقتصادي: صفقة رأس الحكمة غيرت مسار الاقتصاد المصري    8 مصادر لتمويل الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وفقًا للقانون (تعرف عليهم)    إصابة 10 أشخاص في انقلاب ميكروباص بطريق "قنا- سفاجا"    تعليم النواب: السنة التمهيدية تحقق حلم الطلاب.. وآليات قانونية تحكمها    حملات لإلغاء متابعة مشاهير صمتوا عن حرب غزة، أبرزهم تايلور سويفت وبيونسيه وعائلة كارداشيان    رامي جمال يتصدر تريند "يوتيوب" لهذا السبب    البنك المركزي يطرح أذون خزانة بقيمة 55 مليار جنيه في هذا الموعد    الاحتلال الإسرائيلي يخوض اشتباكات في حي البرازيل برفح الفلسطينية    الخارجية الروسية: مستقبل العالم بأسرة تحدده زيارة بوتين للصين    حظك اليوم برج العقرب الأحد 18-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عاجل.. موجة كورونا صيفية تثير الذعر في العالم.. هل تصمد اللقاحات أمامها؟    القومي للبحوث يوجه 9 نصائح للحماية من الموجة الحارة.. تجنب التدخين    نصائح لمواجهة الرهبة والخوف من الامتحانات في نهاية العام الدراسي    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بن حمودة: أشجع الأهلي دائما إلا ضد الترجي.. والشحات الأفضل في النادي    خاص- تفاصيل إصابة علي معلول في مباراة الأهلي والترجي    "التنظيم والإدارة" يكشف عدد المتقدمين لمسابقة وظائف معلم مساعد مادة    بوجه شاحب وصوت يملأه الانهيار. من كانت تقصد بسمة وهبة في البث المباشر عبر صفحتها الشخصية؟    عاجل.. إصابة البلوجر كنزي مدبولي في حادث سير    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    ظهر بعكازين، الخطيب يطمئن على سلامة معلول بعد إصابته ( فيديو)    الداخلية تكشف حقيقة فيديو الاستعراض في زفاف "صحراوي الإسماعيلية"    مع استمرار موجة الحر.. الصحة تنبه من مخاطر الإجهاد الحراري وتحذر هذه الفئات    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    نشرة منتصف الليل| الحكومة تسعى لخفض التضخم.. وموعد إعلان نتيجة الصف الخامس الابتدائي    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    جريمة في شارع ربيع الجيزي.. شاب بين الحياة والموت ومتهمين هاربين.. ما القصة؟    رامي ربيعة: البطولة لم تحسم بعد.. ولدينا طموح مختلف للتتويج بدوري الأبطال    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    نقص أوميغا 6 و3 يعرضك لخطر الوفاة    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في هجرة أبي سلمة رضي الله عنه
نشر في الفجر يوم 14 - 10 - 2015

قال ابن إسحاق: أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ بْنِ هِلاَلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَاسْمُهُ: عَبْدُ اللهِ، هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةٍ، وَكَانَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَلَغَهُ إسْلاَمُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَنْصَارِ، خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا .
أبو سلمة واختيار الهجرة إلى المدينة
وبيعة العقبة المقصودة في النصِّ هي بيعة العقبة الثانية، التي كانت في ذي الحجة من العام الثالث عشر من البعثة، ومعنى هذا أن هجرة أبي سلمة رضي الله عنه كانت بعد بيعة العقبة الأولى مباشرة، أي في المحرم من العام الثالث عشر من النبوة؛ لأن العائدين من المهاجرين إلى الحبشة عادوا بعد سماع أخبار بيعة العقبة الأولى، وكانت في ذي الحجة من العام الثاني عشر من النبوة، وكان أبو سلمة رضي الله عنه وزوجته أم سلمة رضي الله عنها من العائدين في هذا التوقيت، ولقد وجدا عنتًا شديدًا من قادة مكة، خاصة من قومهم بني مخزوم؛ حيث إن زعيم القبيلة كان أبا جهل، وهو أعتى المشركين وأشدُّهم ضراوة على المسلمين، وكان أبو سلمة رضي الله عنه قبل ذلك يدخل في إجارة خاله أبي طالب؛ ولكن بعد وفاته لم يجد مَنْ يُجيره من أهل مكة، فقرَّر الرحيل إلى يثرب؛ حيث علم بوجود عدد من المسلمين اليثربيين هناك.
كانت يثرب اختيارًا أفضل لأبي سلمة رضي الله عنه من اختيار العودة إلى الحبشة؛ وذلك لعوامل عدَّة؛ منها قرب المسافة نسبيًّا من مكة والرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها سكنى العرب فيها؛ مما يجعل الطباع متقاربة، واللغة واحدة، ومنها وجود مسلمين من أهل البلد يُعينوه على الطاعة، ومنها صحبة مصعب بن عمير رضي الله عنه ومساعدته في مهمَّته التي أوكلها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. نقول هذا الكلام مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف حتى هذه اللحظة أن الهجرة الجماعية المرتقبة ستكون إلى يثرب؛ ومن ثَمَّ كان المجال مفتوحًا لعموم المسلمين بالتوجُّه إلى الحبشة أو إلى يثرب؛ لكن بعد قليل من الوقت، وعندما تتضح الرؤية، وتنشط الدعوة في يثرب، ويكثر المسلمون هناك، سيُصبح الاختيار الأَوْلى هو الهجرة إلى يثرب، ثم بعد ذلك ستأتي مرحلة لاحقة تصدر فيها الأوامر صريحة بالهجرة إلى يثرب دون غيرها، وهذا لن يكون إلا بعد بيعة العقبة الثانية.
قصة هجرة أبي سلمة رضي الله عنه
أما قصَّة هجرة أبي سلمة رضي الله عنه فكانت مأسوية إلى أبعد درجة! وقد تعرَّضت فيها أسرته بالكامل للأذى الشديد، وتروي القصة زوجته أم سلمة رضي الله عنهما، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ ثمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَكَ هَذِهِ، عَلاَمَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلاَدِ؟ قَالَتْ: فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذُونِي مِنْهُ. قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالُوا: لاَ وَاَللهِ لاَ نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا. قَالَتْ: فَتَجَاذَبُوا بُنَيَّ سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ. قَالَتْ: فَفُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالأَبْطُحِ فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتَّى أَمْسَى سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي، فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ: أَلاَ تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ؟ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا؟!
قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ إنْ شِئْتِ. قَالَتْ: وَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ إلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي. قَالَتْ: فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي ثمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْته فِي حِجْرِي، ثمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ. قَالَتْ: فَقُلْت: أَتَبَلَّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى زَوْجِي، حَتَّى إذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَالَ لِي: إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: أَوَمَا مَعَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: لاَ وَاَللهِ إلاَّ اللهُ وَبُنَيَّ هَذَا. قَالَ: وَاَللهِ مَا لَكَ مِنْ مَتْرَكٍ. فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي، فَوَاللهِ مَا صَحِبْتُ رجلاً مِنَ الْعَرَبِ قَطُّ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، حَتَّى إذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطَّ عَنْهُ ثَمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرَةِ، ثمَّ تَنَحَّى وَقَالَ: ارْكَبِي. فَإِذَا رَكِبْتُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ فَقَادَهُ حَتَّى يَنْزِلَ بِي. فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ قَالَ: زَوْجُك فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ -وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلاً- فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكَّةَ. قَالَ: فَكَانَتْ تَقُولُ: وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الإِسْلاَمِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَة.
ولنا بعض التعليقات على قصَّة هجرة آل أبي سلمة:
أولاً: كانت لغة أم سلمة رضي الله عنها في هذه القصة حزينة للغاية؛ ليس فقط لأن الأحداث مأسوية؛ ولكن لعاملين رئيسين زادَا من إحساسها بالألم؛ أما العامل الأول: فهو أنها كانت عائدة لتوِّها من الحبشة، وقد رأت هناك حُسن الاستقبال، ونعمت هي وزوجها بعدل النجاشي رحمه الله، فكانت المقارنة بين الموقفين صعبة؛ خاصة أن العائلة رجعت بمحض إرادتها، وكان من الممكن أن يستمرُّوا في هجرتهم الآمنة إلى الحبشة؛ لكن قدَّر الله وما شاء فعل.
ولا شكَّ أن الذي يحوز النعمة ثم يُسلبها يكون أشدَّ ألمًا من الذي لم يُعْطَ النعمة أصلاً، ومن هنا ظهر في كلامها ل الحزن الشديد. وأما العامل الثاني: فهو أن الإيذاء هنا يأتي من أقرب الأقرباء؛ فبينما يتوقَّع المرء من بعض الناس أن يقفوا معه في أزمته، أو يساعدوه في حلِّ مشكلته، إذا هم الذين يتعرَّضون له بالإيذاء، ويتعاونون على العدوان عليه، فكان إحساس أم سلمة رضي الله عنها كما وصف الشاعر طرفة بن العبد في قصيدته عندما قال:
وَظُلمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً *** عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّد
ثانيًا: أوضحت القصَّة مدى الشقاق الذي حدث في مكة؛ نتيجة إسلام بعضهم وبقاء بقية أفراد البيت على الكفر؛ فالصراع الذي دار في القصة بين عائلة أم سلمة رضي الله عنها وعائلة زوجها أبي سلمة رضي الله عنه هو في الواقع صراع في عائلة واحدة -هي عائلة بني مخزوم- انشقَّت على نفسها! فأم سلمة رضي الله عنها هي أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وزوجها أبو سلمة رضي الله عنه هو أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فأبو أمية -أبو أم سلمة- هو ابن عمِّ عبد الأسد -أبي أبي سلمة- وكان أبو أمية من الرجال المرموقين في مكة، وأصحاب المكانة الرفيعة في بني مخزوم، وكان واسع الكرم، حتى إنه كان يُسَمَّى "بزاد الركب" ؛ حيث كان يحمل معه في سفره كل ما يمكن أن تتزوَّد به القافلة بكاملها! ومع ذلك لم يشفع كلُّ ذلك لأم سلمة ل، فدار الصراع الأليم الذي أدَّى إلى تفريق الأسرة بهذه الصورة التي رأيناها، ولا شكَّ أن هذه الفرقة كانت تزيد من حنق الكافرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الدين الجديد -في منظورهم- كان هو السبب في هذه الفرقة بين أبناء العائلة الواحدة.
ثالثًا: من الممكن أن يتصوَّر بعضهم أنه ما دام فُرِّق بين أفراد أسرة أبي سلمة رضي الله عنه فإنه كان لزامًا عليه أن يبقى في مكة مع أسرته؛ ولكن الحق غير ذلك! فأبو سلمة رضي الله عنه كان سيتعرَّض للإيذاء حتمًا في مكة؛ بل وقد يُقْتَل، فليس له مجير من بني مخزوم، وقد مات أبو طالب -خاله- الذي كان يُجيره قبل ذلك؛ فبقاء أبي سلمة رضي الله عنه يُعَدُّ إهدارًا للطاقة الإسلامية لا طائل من ورائه؛ خاصة أن العمل الدعوي في مكة مع أهلها يكاد يكون متوقِّفًا تمامًا؛ بينما فرصة الدعوة مفتوحة في يثرب، وبالتالي يمكن لأبي سلمة رضي الله عنه أن يكون عنصرًا فاعلاً هناك؛ خاصة أنه من قدامى المسلمين، وحصيلته من الإيمان والعلم كبيرة، هذا كله بالإضافة إلى أنه لم يكن معتادًا أن تتعرَّض النساء من العائلات الكبيرة للإيذاء البدني.
ومن ثَمَّ فإنه على الأغلب ستكون أم سلمة رضي الله عنها في أمان إلى أن يتيسَّر لها أن تهاجر إلى زوجها، وهذا -في الحقيقة- يُعطينا رؤية للطريقة الواقعية التي كان يتعامل بها المسلمون مع الأحداث بعيدًا عن تحكيم العاطفة، الذي يمكن أن يُؤَدِّيَ إلى عواقب وخيمة، فلم يكن هناك مانع أن يغادر الرجل وحده البلد -مع كل التداعيات السلبية لهذا الأمر- إذا كانت المصلحة الأعلى للأسرة وللدعوة تتطلَّب ذلك، وقد كان ذلك بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته؛ مما يُعطيه تأصيلاً شرعيًّا مهمًّا.
رابعًا: رأينا في القصة بعض مظاهر النخوة الجميلة، وهي أخلاقيات بقيت في بعض رجال الجاهلية؛ وذلك على الرغم من الجوِّ القاسي العام الذي كانت تُعاني منه مكة والجزيرة العربية في هذه الأوقات، وكانت مظاهر النخوة في القصة متمثِّلة في موقفين، أما الأول فكان لابن عم أم سلمة رضي الله عنها، ولم يكن على دينها، ومع ذلك فقد رقَّ قلبه لحالها، وتوسَّط عند أهل أم سلمة رضي الله عنها ليُعيدوها إلى زوجها بعد فرقة سنة كاملة، ولم أقف للأسف على اسم هذا الرجل الشهم من رجال بني المغيرة.
أما الموقف الثاني فكان أعجب! وكان بطله هو عثمان بن طلحة من بني عبد الدار، ووجوه العجب في هذا الموقف كثيرة؛ فأولاً: ليس عثمان بن طلحة من ذوي رحم أم سلمة رضي الله عنها حتى يُضَحِّيَ من أجلها، وثانيًا: هو على خلاف عقدي كبير معها ومع زوجها؛ بل هو في معسكر وهما في معسكر معادٍ له، وثالثًا: الجهد الذي بذله ليس جهدَ وساطةٍ أو كلمات، إنما فرَّغ الرجل من وقته وراحته ما يسع رحلةً طويلة من مكة إلى قباء؛ أي ما يقرب من مسيرة خمسمائة كيلو متر! وهذا يعني غياب ثلاثة أسابيع تقريبًا عن مكة ليقطع الطريق ذهابًا وإيابًا، مع تعرُّضه لكل مخاطر السفر وحيدًا في الصحراء! ورابعًا: لم ينتظر عثمان بن طلحة كلمة شكر واحدة من زوج المرأة، أو من المسلمين، إنما أوصلها سالمة ثم قفل راجعًا ببساطة إلى مكة، وخامسًا: التفاني الأخلاقي في رعاية أم سلمة ل أثناء الرحلة، وإبراز مظاهر العفَّة والاحترام بصورة لفتت نظر أم سلمة رضي الله عنها، لدرجة أنها علَّقت على ذلك قائلة: "فَوَاللهِ مَا صَحِبْتُ رجلاً مِنَ الْعَرَبِ قَطُّ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ". وكأنها لم تجد هذا كافيًا لمدحه فعادت في نهاية قصتها وقالت: "وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ"!
إنها صورٌ من النخوة والشهامة تستقيم بها حياة الناس على ظهر الأرض؛ وذلك على الرغم من مظاهر الظلم الفاحشة التي نراها هنا وهناك، ويكفي لكي نُدرك عظمة هذا الموقف أن نُقارنه بما حدث من قبيلة بني مخزوم سواء من أقارب أبي سلمة رضي الله عنه، أو أقارب زوجته أم سلمة رضي الله عنها، الذين قبلوا -في بساطة عجيبة- أن ترحل ابنتهم وطفلها بمفردهما إلى يثرب في هذه الصحراء القاحلة، والحمد لله الذي مَنَّ على عثمان بن طلحة بعد ذلك بالإسلام؛ فقد صار من رجال وأبطال هذا الدين في العام السابع من الهجرة.
سابعًا: تكون هجرة أم سلمة رضي الله عنها بابنها على ذلك في أواخر العام الثالث عشر من البعثة، وأعتقد أنها كانت في شهر ذي القعدة تقريبًا؛ لأن زوجها أبا سلمة رضي الله عنه هاجر في أول العام الثالث عشر من البعثة بعد رجوعه من الحبشة مباشرة، وهاجرت هي -كما تقول-: "حَتَّى أَمْسَى سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا". والواقع أن السنة لم تكتمل؛ لأن بيعة العقبة الثانية كانت في ذي الحجة من العام الثالث عشر من النبوة، ولو كانت هجرة أم سلمة رضي الله عنها بعد بيعة العقبة الثانية لهاجرت في رفقة الوفد اليثربي، وما فكَّرت في الهجرة وحيدة.
هذا بالنسبة إلى هجرة آل أبي سلمة رضي الله عنهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.