الحضور الإعلامى ليس هو المعادل الموضوعى للقيمة الإبداعية بالضرورة، ومن هنا أجد مثلا أن الإنجاز الفنى الذى حققه هانى شنودة الذى احتفلنا قبل أيام بعيد ميلاده لا يتناسب مع تلك الإضافات التى حققها قبل أكثر من أربعين عاما للغناء المصرى. تستطيع أن ترى بين الفنانين من هم دائمو الحضور فى البث الإعلامى، إذ يحقق لهم هذا الحضور قوة أدبية ومكانة خاصة ربما لا يكون لها سند إبداعى موازٍ، ولكن البعض يحدد مكانة الناس أحيانا بهذا «الترمومتر»، مثلا الدكتور الذى يراه الجمهور كثيرا فى التليفزيون يذهبون إلى عيادته، وقارئ القرآن الذى تستمع إليه فى الإذاعة يزداد الطلب عليه بعدها فى السرادقات. هانى شنودة يكتفى بأن يحتضن ومضاته ويحاول أن يصل إلى جمهوره ولو من ثقب إبرة، فهو محارب بالنغمة، ثورى بالفكر، موهوب بالسليقة.. هانى مؤسس فرقة «المصريين» التى أحدثت انقلابا موسيقيا منذ نهاية السبعينيات عندما انطلقت بروح ورؤية مغايرة للسائد، وقدمت أغنيات خارج القاموس الشعرى والموسيقى التقليدى، مثل «ماتحسبوش يا بنات» أو «بنات كتير كده من سنى»، و«ماشية السنيورة» وغيرها. ضرب هانى شنودة فى كل الاتجاهات العاطفية والسياسية والاجتماعية، مستعينا بعقول مخضرمة وأخرى شابة كانت أيضا تؤمن بنفس المنهج، وهكذا تجد معه من البداية صلاح جاهين وشوقى حجاب وعبد الرحيم منصور وبهاء الدين محمد وعصام عبد الله، ونلمح من الأسماء التى بدأت رحلتها معه محمد منير وعمرو دياب.. ومن الموسيقيين عمر خيرت ويحيى خليل. كان تأثير هانى شنودة هو الأعمق، ليس بسبب نجاح فرقته، ولكن لأنها أحدثت تيارا موسيقيا ووُلدت من رحمها فرق أخرى، وصل عددها إلى رقم 128، وكانت هذه هى الدلالة الكبرى على أنه جاء فى الوقت المناسب، وردد نغمة كانت على ألسنة شباب ذلك الزمان. صحيح أنه لم يواصل الطريق سوى عدد محدود منها مثل «فور إم» عزت أبو عوف، و«الأصدقاء» عمار الشريعى، و«طيبة» للأخوين الإمام، حسين ومودى. حالة غنائية امتلكت كل ربوع مصر.. كل الفرق الأخرى انقسمت على نفسها أو اتجه أصحابها إلى مجالات أخرى.. «الأصدقاء» كان من بين نجومها مثلا علاء عبد الخالق وحنان ومنى عبد الغنى، كل منهم ذهب إلى طريق.. «أبو عوف» ترك الفرقة واتجه إلى التمثيل.. الأخوان «إمام» الراحل حسين كان واحدا من نجوم التمثيل ومقدمى البرامج، و«مودى» اتجه بطاقته إلى الموسيقى التصويرية، وكان فى الفرقة عازف الدرامز أحمد عز الذى أصبح مليارديرا فى عهد المخلوع. الفرق كلها تعرضت لعوامل الزمن التى أحالتها إلى فعل ماضٍ.. حاول هانى شنودة فى لحظة زمنية أن يشكل فريقا آخر، بل واتجه إلى تغيير عنوان الفرقة.. ولم أفهم السر، وهو من المؤكد لم يكن لديه أسبابه وماتت التجربة وعاد مرة أخرى اسم «المصريين» وواصل هانى العطاء رغم الأجواء القاسية. هانى قدم فى البداية مطربة الفرقة إيمان يونس، تزوجت وسافرت، ثم استعان بمنى عزيز، تزوجت وابتعدت قبل 17 عاما، ومنذ ذلك الحين لم يعثر على بديل لها. لم يكتفِ هانى بالأغانى الجماعية، لكنه قدم أغنيات فردية مثل «أنا باعشق البحر» لنجاة، كلمات الشاعر عبد الرحيم منصور، حيث وجدنا اللحن متمردا تماما على الشكل التقليدى، ونجاة أيضا قدمت فى أدائها إحساسا مختلفا، ولا ننسى له واحدة من أروع أغانينا «زحمة يا دنيا زحمة» بصوت عدوية، الأغنية يعتقد كثيرون أن كاتبها هو صلاح جاهين، والحقيقة أنه شاعر موهوب لم يحقق شهرة يستحقها، إنه حسن أبو عتمان، ويكفى أن نذكر تلك الشطرة «الساعة إلا تلت ومعادى معاه تمانية». هانى من الشخصيات التى تستمتع بالإنصات إليها، فهو القائل: «الشباب شباب الركب»، فهو يرى أن الإنسان ما دام لم يشعر بالألم فى ركبتيه فهو لا يزال شابا.. وقد يكون هذا صحيحا بنسبة كبيرة، ولكن أيضا أضيف: «الشباب شباب الإبداع»، وشنودة بإصراره على أن يكمل رحلة «المصريين» يعيش ولا يزال شباب الإبداع، أما الركب فهو أدرى بحالها!!