أول شيء يتم البحث عنه عند حدوث الكوارث الجوية هو هذا الصندوق الذي يحمل بداخله أسرار الطائرة، ويتكتم بشدة على هذه الأسرار كي لا يفقدها، فهو يتحمل الانفجارات وحطام الطائرات والنيران، ويتحمل السقوط من ارتفاع عدة كيلومترات، ويمكث في المحيطات تحت أعماق بعيدة جداً متحملاً ضغط الماء عليه بشدة دون أن يتفوه بكلمة واحدة، ويتحمل كل تلك الظروف حتى يتم التقاطه ليحكي القصة كاملة. دعت الحاجة إلى هذا الجهاز كثرة الحوادث الجوية المجهولة الأسباب في الستينيات قبل ظهور هذا الصندوق، وقد جاءت فكرة هذا الجهاز من قبل عالم الطيران الأسترالي “ديفيد وارن” الذي صنع أول جهاز لتسجيل تفاصيل رحلات الطيران، ولكن كالعادة يلقى الشخص المبتكر الانتقاد من البيئة التقليدية؛ فقد رفضت سلطات الطيران الأسترالية جهازه، وقالت: “إنه عديم الفائدة في مجال الطيران المدني”، كما أنه لم يسلم من ألسنة الطيارين، فقد أطلقوا عليه اسم “الأخ الأكبر” لأنه يتجسس على أحاديثهم؛ فقد كان الجهاز يقوم بتسجيل نحو أربع ساعات من الأحاديث التي تجري داخل مقصورة القيادة إضافة إلى تفاصيل أداء أجهزة الطائرة. لذا قرر ديفيد أن يبحث عن بيئة أخرى خصبة يمكن أن تنمو فيها فكرته، وتوجه إلى بريطانيا حيث تم الترحاب بفكرته بشدة، وتم بث تقرير عن جهازه على الإذاعة البريطانية، فتقدمت له الشركات بعروضها لتطويره وصناعته، حتى صارت القوانين الدولية اليوم تلزم به جميع الرحلات التجارية. ويعتقد الكثر من الناس أن لونه أسود بالفعل، إلا أنه غير ذلك؛ فهو يأخذ لون أصفر أو برتقالي ليتم تمييزه عن بقية حطام الطائرة، ولكن هناك بعض القصص التي تحكي عن أصل تسميته؛ فقد أعزى البعض هذه التسمية لارتباطه بالكوارث الجوية، كما يرى البعض أن التسمية ترجع لأجهزة التسجيل الداخلية التي كانت عاتمة اللون في ذلك الوقت، كما أن هناك تفسير اخر يتعلق بمقابلة كانت بين صحفي والدكتور وارن مخترع الجهاز، حين قال له الصحفي: “This is a wonderful black box” أي: أنه صندوق أسود رائع! وسار عليه الاسم بعد ذلك. تحتوي الطائرات في مؤخرتها عادة على صندوقين أسودين، أحدهما خاص بالطائرة وأجهزتها ليقوم بتسجيل البيانات الرقمية كالوقت والسرعة والاتجاه، أما الصندوق الثاني فهو لتسجيل الأصوات؛ كالحوارات التي تدور بين الطاقم عند تعرض الطائرة لظرف ما. عند تعرض الطائرة لكارثة جوية فإن الصندوق يكون بمأمن في المؤخرة، كما أنه محفوظ في قالب مصنوع من مواد قوية كالتيتانيوم، ومحاط بمادة عازلة تتحمل درجات حرارة عالية تفوق 1000 درجة مئوية، ويمكنها الغوص على عمق 20 ألف قدم تحت الماء وتقاوم عوامل التآكل البحرية لمدة 30 يوماً، وفي أثناء ذلك يقوم الصندوق بإرسال إشارات بذبذبات قدرها 37,5 كيلوهرتز والتي يمكن التقاطها على عمق يبلغ 3500 متراً