العلم هو أسمى رسالة فى الحياة و أعظم الأعمال على الإطلاق، وهو عصب الأمم والسبيل الأوحد لتقدمها ورفعتها فوق غيرها من الأمم بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالى.. ولو ألقينا النظر على تاريخ أمتنا نجد أن المتعلمين هم أصحاب الأفضلية بين أفراد المجتمع وقياداته، ونجد أيضاً أن المتعلمين هم الذين صنعوا حاضر الأمة المشرق ليصبح تاريخاً مشرفاً لنا لنتباهى به بين الأمم وعبر الأجيال. وجميع الأديان السماوية رفعت من قيمة العلم وجعلته من الفرائض، ورفعت أيضاً من قيمة المتعلمين ووضعتهم فى مكانة أرقى من مكانة الغير متعلمين، كما جاء فى قول الله تعالى: ( إن الله يرفع الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). ولكن دعونا نفكر ملياً فى أمر التعليم فى بلادنا وآخر ما توصلت إليه أوضاع التعليم، وتأثيره فى حاضرنا ومستقبلنا.. و قبل ذلك دعونا نتسائل (ما هو المعنى الحقيقى والثابت للتعليم على مر العصور)؟ الثابت أن التعليم هو أن يتلقى طالب العلم المعلومات والنظريات بشكل منسق ومنمق، ويتعلم كيف يطبق ما تلقاه من معلومات ونظريات على الواقع العملى بصورة علمية عملية، حتى يتسنى له إكتساب خبرات أكبر وتفادى الأخطاء المتعلقة بالنظريات التى درسها، وأيضاً حتى لا ينسى ما تعلمه. وعندما ظهرت الشهادات بظهور الأكاديميات وتحول التعليم إلى منظومة مرتبة، كانت الشهادة تعد مجرد وسيلة إثبات، لتثبت أن الطالب قد إجتاز مرحلة معينة من مراحل التعليم وأنه مؤهل ليخوض مرحلة جديدة، وقد كانت هذه هى فكرة الشهادة والهدف منها وقت ظهورها، وقد كانت هذه أيضاً نظرة المجتمع لها.. حتى أصبحت الشهادة هى السبيل الوحيد فى مجتمعنا فى وقت من الأوقات للحصول على وظيفة جيدة ومركز إجتماعى مرموق وأيضاً الراتب الثابت الذى يضمن لصاحبه حياة كريمة آنذاك ويجعله شخصاً ذو قيمة كبيرة فى نظر أبناء المجتمع. حينها تحول الهدف فى التعليم من تلقى العلم إلى الحصول على الشهادة التى تضمن لصاحبها مستقبل وظيفى مرموق.. فتحولت تلك التى كانت مجرد وسيلة إلى غاية أساسية،
مما جعل المتعلمين لا يفكرون فى العلم بل فى الحصول على الشهادة، وظلت تلك الفكرة تترسخ فى عقول أبناء المجتمع لسنوات وعقود حتى أصبحت إتجاه وفكر إجتماعى راسخ، مما أدى إلى فقدان العلم لقيمته وأدى أيضاً إلى إهمال المنظومة العلمية وإهمال التطبيقات العملية على النظريات العلمية وإهمال البحث العلمى أيضاً فى كل ماهو جديد من العلوم، حتى حدث إنفصال تام بين الدراسة الأكاديمية والحياة العملية، والتى من المفترض أن تكون تلك الأولى تأهيلاً للثانية. وفى عهدنا الحالى نجد أن الشهادة قد فقدت قيمتها الوظيفية نظراً لإرتفاع معدلات البطالة، فلم تعد الشهادة سبيلاً للتوظيف أو حتى لأى مستقبل مرموق، حيث أن المرء يحصل مباشرة بعد درجة طالب على درجة عاطل. وبالرغم من ذلك لم يغير المجتمع نظريته عن الشهادة بعد أن فقدت قيمتها السابقة التى جعلت منها غاية بدلاً من وسيلة، ولم يُعِد المجتمع إلى العلم قيمته السابقة، بل أبقى على الشهادة كغاية وهدف، ولكنها ليست هدف للحصول على وظيفة وإنما لتحسين صورة المرء أمام المجتمع. فالشخص الذى لا يملك شهادة لا ينظر له المجتمع ياحترام.. وعليه ترسخت فى عقول بعض الطلاب بل وأكثرهم رغبة فى الحصول على المزيد من الشهادات حتى تتعالى قيمتهم وتزداد نظرة إحترام المجتمع لهم، فيقومون بالإلتحاق بالدراسات العليا بعد (الليسانس) أو (البكالوريوس) فى الكليات حتى يحصلوا على أعلى مراتب الشهادات العلمية فى المجتمع والتى لا تفوقها شهادات أخرى. وعندما يحصل الطالب على شهادة (الدكتوراه) والتى تعد أعلى شهادة يمكن أن يحصل عليها المرء ويصبح دكتوراً بالجامعة وأستاذاً لطلاب (الليسانس) أو (البكالوريوس) ومشرفاً على أبحاث طلاب الدراسات العليا، ويصبح ذو أعلى مكانة علمية فى الجامعة وفى المجتمع أيضاً يتصور أنه قد أصبح إلهاً ويجب على جميع الطلاب الإنصياع له ولأوامره ولما يقوله أو يفعله، بل يرى أيضاً أنه أصبح مباحاً له أن يعبث بهؤلاء الطلاب وبمستقبلهم دون أن تؤرقه أو تؤنبه ذرة واحدة من ضميره، فيأخذه التعالى والغرور إلى تصور أنه قد وصل إلى قمة العلم وذروته، وينسى قول الله تعالى ( وفوق كل ذى علم عليم)، ولكن كل هذا لا يعنيهم كثيراً لأن هدفهم ليس العلم فى حد ذاته وإنما كان هدفهم من البداية الوصول إلى الشهادة التى حصلوا عليها حتى يصبحوا فى مكانة الآلهة كما يتصورون. وبناءً على ذلك نجد جميعاً أن مناصب التدريس الجامعية أصبحت إرثاً لأبناء الدكاترة وذويهم، ونجد أيضاً أن معظم الدكاترة الجامعيين فاشلون فى توصيل المعلومات إلى الطلاب وتثبيتها فى عقولهم، ونجد أيضاً أن الدكاترة الجامعيين لا يؤهلون طلابهم لتطبيق ما درسوه فى الحياة العملية، بل ونجد أيضاً أن هناك دكاترة لا يستطيعون تطبيق علومهم التى هم أساتذة فيها عملياً، مما يضطر الطالب الجامعى بعد حصوله على شهادة التخرج إلى إعادة التدريب والتأهيل للتطبيق العملى فى مكان آخر وكأنه لم يدرس شيئاً بالجامعة، والذى يرجع سببه إلى فصل الدراسة الأكاديمية بالجامعة عن التطبيق العملى كما أشرنا من قبل. كل ما ذكرناه كافياً لهدم أساسات أى أمة ولإضعاف قوامها.. ولكن علينا أن نعرف ونتأكد جيداً أن السبب الرئيسى لما توصل إليه التعليم فى بلادنا ليست السياسة التعليمية الفاشلة فحسب، وإنما هو الإتجاه المجتمعى المترسخ فى ذهن هذا المجتمع بأكلمه، والذى أدى إلى إتباع هذه السياسة الفاشلة وغيرها. فإذا أردنا أن نبدأ فى الإصلاح والبناء، فعلينا أن نعيد للعلم قيمته وأن نعود إلى مفهومه الصحيح، وأن ننبذ فكرة الشهادات من رؤوسنا لتحل محلها فكرة أخرى وهى تلقى العلم وتطبيقه والبحث فى مستجداته دون إعتبار للشهادات التى حتماً سنحصل عليها باتباعنا المنهج الصحيح للتعليم... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.