يملك المفكر جلال أمين عقلا وأسلوبا فى الكتابة نادرين فى هذا البلد. عقلا منطقيا عمليا ناصعا وأسلوبا بسيطا عميقا وابتسامة هادئة حانية تكاد تطل من وراء الكلمات. وفى كتابه الجديد «محنة الدنيا والدين فى مصر» الصادر عن «دار الشروق» فى مايو الماضى، قبل أيام من ثورة 30 يونيو ضد مرسى وعصابته التى استولت على مصر باسم الدين، وحولت دنيانا إلى جحيم، يرصد جلال أمين ظاهرة الإسلام السياسى وصعود التطرف الدينى كما لم يفعل أحد.
تحت هذه العدسة المنيرة المستنيرة يضع جلال أمين الكثير من مظاهر الحياة اليومية والأدب ورسوم الكاريكاتير ومقالات الصحف والحوادث الاجتماعية والسياسية وغيرها مما لف انتباهه وكتب عنه خلال العامين السابقين فى مقالاته الصحفية، مقسما إياها إلى أبواب تدور كلها حول العلاقة بين الدنيا والدين فى مصر الآن، من الازدواجية التى يعانى منها المصريون عموما، إلى علاقة الدين بالديمقراطية والتحديث والأخلاق والمجتمع الاستهلاكى، خاتما كتابه بتفصيل الجذور التاريخية للمحنة التى كادت، أو تكاد، تقضى على مجتمعنا.
فى مقدمة هادية مثل خيط يربط المقالات معا يعود جلال أمين إلى كتاب سابق له هو «مصر فى مفترق طرق» رصد فيه ظاهرة المد الدينى الذى يريد ابتلاع الدنيا مبينا خطورته على الدنيا والدين معا:
« بدا لى من ملاحظتى لخطاب التيار الدينى بعد (ثورة يناير) أن تطورًا آخر إلى الأسوأ قد لحق بالنظرة إلى العلاقة بين الدين والدنيا، ما دفعنى إلى محاولة تفسيره بإلقاء نظرة على الثورات الثلاث التى حدثت خلال المائة عام الماضية ثورة 1919 وثورة 1952 وثورة 2011 وإلى التغييرات التى طرأت على المجتمع المصرى خلال هذه الفترة الطويلة، ما يمكن أن يكون له أثر على النظرة إلى العلاقة بين الدين والدنيا.
من الشيق أولاً أن نلاحظ الاختلاف بين شخصيات الزعماء والرؤساء الذين قادوا أو جلبتهم الثورات الثلاث، وهو اختلاف يعبر عن بعض ما طرأ على المجتمع المصرى- وعلى الأخص الطبقة الوسطى المصرية- من تغير عبر المائة عام الماضية، فلنلاحظ مثلاً الفروق الصارمة بين شخصية كل من سعد زغلول ومصطفى النحاس، من بين قادة ثورة 1919 وبين شخصية جمال عبدالناصر وأنور السادات، من قادة ثورة 1952 ثم بينهم وبين حسنى مبارك، الذى جاء بعد أن استنفدت ثورة 1952 كل قوتها، ثم بين هؤلاء وبين محمد مرسى.
وبعد أن يبين الفوارق الهائلة فى المستوى الثقافى والسياسى بين هؤلاء الزعماء باعتبارهم رموزا للتدهور المتتالى الذى أصاب المجتمع المصرى على مدار قرن من الزمان، يرى جلال أمين أن هذا التدهور فى المستوى الثقافى عبر مائة عام، الذى يمكن ملاحظته على خريجى الجامعات المصرية، بما فى ذلك معظم من سافر منهم لإتمام دراستهم بالخارج، «له علاقة، ليس فقط بمستوى التعليم فى مصر، بل وبسمة العصر كله، فى الداخل والخارج بما فى ذلك التحول التدريجى لنمط الحياة الأمريكى محل النمط الأوروبى» وأيضا «ما طرأ على طبيعة الطبقة الوسطى المصرية خلال هذه المائة عام، وعلى الأخص نوع تطلعاتها وتسعى إلى اكتسابه من وراء اتصالها بالعالم الخارجى.
ومن المقارنة بين النمطين الأوروبى والأمريكى، والاشتراكى والاستهلاكى، ينتقل الدكتور أمين إلى بحث ظاهرة خطيرة أخرى مرتبطة بالأولى وهى «أريفة المدينة»:
«لا شك أن هذا التطور كان ناتجًا عن ارتفاع معدل الهجرة من الريف إلى المدينة، وعلى الأخص فى الستين عامًا الماضية، وكذلك النمو السريع فى بعض القرى والمدن الإقليمية الصغيرة حتى تحولت بدورها إلى مراكز حضرية، أو بالأحرى، إلى مراكز تختلط فيها سمات حياة القرية والمدينة.
لا أشك أيضًا فى أن هذا الظاهرة «ترييف المدينة المصرية» وثيقة الصلة بما طرأ على تفسير شرائح واسعة من الطبقة الوسطى للدين، وهو تفسير يتسم بدرجة أكبر من اللاعقلانية، ومن الاهتمام بالشكليات على حساب جوهر الدين، وبدرجة أقل من التسامح مع الأقليات الدينية، إننى أميل إلى الاعتقاد بأن هذه السمات الثلاث للتفسير الدينى الشائع فى مصر الآن، لم تكن الطابع الغالب لا فى القرية المصرية على مر العصور ولا فى المدينة المصرية، بل هى نتيجة لتغيرات حديثة نسبيًا من بينها هذا «الترييف» السريع للمدينة المصرية، بما ترتب عليه من نمو ازدواجية اجتماعية لابد أن يصحبها ارتفاع معدل التوتر فى العلاقات الاجتماعية، وتدهور فى الثقة بالنفس وبالآخرين، لم يكن هذا التطور شيئًا حتميًا بالمرة، فهذا النوع من الازدواجية وهذه الدرجة من اللاعقلانية وقلة التسامح مع الآخرين لا ينتج إلا فى ظل فشل ذريع فى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية بالسرعة التى تتطلبها زيادة السكان، هذا الفشل فى تحقيق التنمية هو للأسف سمة مشتركة فى الحقب المتتالية من التاريخ المصرى طوال المائة عام التى انقضت منذ ثورة 1919.
فى نهاية مقدمته يبين الدكتور أمين أن هدفه النهائى هو كشف «طبيعة هذه الازدواجية الجديدة فى المجتمع المصرى، والتى يمكن تسميتها ب«ازدواجية الطبقة الواحدة» لتمييزها عن الازدواجية التى كان يتسم بها المجتمع المصرى قبل ثورة 1952 وكذلك أثر هذه الازدواجية على «محاولة المصريين تحقيق الديمقراطية السياسية، وتحديث المجتمع، وعلى المعايير الأخلاقية السائدة، وعلاقة كل ذلك بما طرأ من تغيير مذهل على النظرة إلى العلاقة بين الدين والدنيا.
فى مقاله الأول بالكتاب يعرف جلال أمين مصطلح «ازدواجية الطبقة الواحدة» لتمييزه عن غيره من أوجه الصراع «الطبقي» الذى يتجسد عادة فى اختلاف المعايير والقيم والأخلاقيات بين طبقتين أو أكثر من طبقات المجتمع، ولكنه حين يصيب طبقة واحدة من الناس فهو لا يعنى سوى وجود خلل اجتماعى ونفسى فى هذه الطبقة.
فى مقال له بعنوان «لماذا تغير رأينا فى نجيب محفوظ»؟ يرد جلال أمين على الهجمة القبيحة التى شنها السلفى عبد المنعم الشحات متهما أعمال الأديب الكبير بالدعارة دون أن يذكر اسمه ودون أن يحاول نفى هذه الاتهامات السافلة، ولكنه يرد على طريقة نجيب محفوظ نفسه بالحديث عن قصة قصيرة بعنوان «آل شكرى بهجت» كتبها محفوظ عام 1987 رأى فيها ببصيرته النافذة مستقبل مصر على يد أمثال الشحات وغيره من الجهلة المتطرفين، تدور حول شاب يصيبه فيروس التطرف فيحول حياة والديه المسنين إلى جحيم قبل أن يقبض عليه ويعدم، ويختم مقاله بعبارة محفوظ النافذة: «إنه جيل يعانى من ذكريات الهزيمة والغلاء والمستقبل المسدود»!
وفى مقال بعنوان «فيم أخطأ طارق البشري؟» يفند جلال أمين مزاعم عراب الإخوان الذى كان أحد أسباب انتكاسة ثورة يناير وسقوطها فى أيدى الإخوان والسلفيين، ويبين تهافت منطقه وفساد عبارته التى يردد فيها أن الدولة المدنية هى نفسها الدولة الدينية ولا تعارض بينهما، وهى جملة جوفاء لا معنى لها يغلفها المستشار السابق الذى نسى المنطق واللغة وغرق فى الخزعبلات.
وفى مقال آخر بعنوان «الدولة الرخوة وازدراء الدين والفن والوطن» يلتقط الدكتور جلال أمين حادثتين من الحوادث السيارة التى مرت بنا خلال العامين المنصرمين، وهما الدعوى التى رفعها أحد المحامين ضد الفنان عادل إمام يتهمه فيها بازدراء الأديان، وما تلاها من غضب وتصارع بين أنصار الفن وأنصار القضاء على الفن، والثانية هى القبض على محام مصرى شاب فى السعودية بتهمة تهريب مخدرات، بينما السبب الحقيقى هو قيامه برفع دعوى ضد السعودية بسبب اعتقالها لبعض المصريين دون وجه حق، وما تبع ذلك من مظاهرات وصدامات أدت إلى أزمة حادة بين البلدين.
قد يبدو أنه لا يوجد ما يربط بين الحادثين ولكن الدكتور أمين ينظر إليها وإلى مثلها باعتبارها «دليلاً على رخاوة وضعف الدولة التى لا يجب أن تترك الناس يضرب بعضهم البعض وينكل بعضهم بالآخرين كلما استطاع، ويدفع فريق من الناس فريقا آخر إلى ما يشبه اليأس والتفكير فى ترك البلاد إلى غير رجعة»!
فى مقال مماثل يتساءل عنوانه بتهكم: «هل هذه أمة على أبواب نهضة»؟
يتناول جلال أمين بعضا من العجائب التى مرت بحياتنا، من نوعية مستشارة الرئيس مرسى التى وصفت الختان بأنه «مكرمة للبنت»، وضباط الشرطة الذين طالبوا بالسماح لهم بإطلاق لحاهم، وصولا إلى الهجوم على السفارات الأمريكية ومهاجمة الأقباط بسبب فيلم تافه ردىء صنعه شخص تافه، وهى مواقف تنم عن حالة «تفاهة جماعية»..والتعبير من عندنا لأن لسان الدكتور جلال أمين العف لا يتفوه بمثل هذه الألفاظ!