نشر معهد ألمانيا لدارسات الشئون الخارجية والأمنية دراسة تناول فيها تحليلاً للسياسية الخارجية للرئيس المصرى محمد مرسى وحملت الدراسة عنوان «سياسة مصر الخارجية تحت حكم محمد مرسى ما بين الاعتبارات المحلية والقيود الاقتصادية». بدأت الدراسة بالإشارة إلى أنه منذ توليه منصبه، حرص الرئيس محمد مرسى بوضوح على تصوير نفسه فى صورة بعيدة عن صورة سلفه حسنى مبارك، وذلك من خلال التأكيد على زعامة مصر الإقليمية والبحث عن شراكة مع حلفاء جدد على مستوى العالم. وأتت تحركات مرسى فى مجال السياسة الخارجية لتتناقض تماما مع أيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين التى ينتمى إليها. وسعى مرسى إلى تعزيز الدعم الشعبى له من خلال نشاط السياسة الخارجية لتعويض عدم النجاح فى السياسة الاقتصادية والاجتماعية. ولكن مساعى مرسى لا تلقى نجاحًا كبيرًا خاصة فى ظل نقص الإمكانيات المصرية التى تجعل القاهرة غير قادرة على لعب دور الزعامة الإقليمية. كما أنه فى ظل الحالة الاقتصادية الصعبة فإن الرئيس وقيادة جماعة الإخوان المسلمين غير قادرين على استعداء الشركاء التقليديين لمصر، مع العلم أن الجماعة اعتمدت كثيرا فى نقدها لنظام مبارك على الهجوم على علاقة مصر بهؤلاء الشركاء مثل أمريكا وإسرائيل.
وجهت السياسة الخارجية لمبارك إلى الحفاظ على الوضع القائم قبل كل شىء. ولم يكن مبارك يعطى أولوية لتبنى سياسة خارجية استباقية أو القيام بدور قيادى إقليمى. وتبنت مصر فى ظل النظام السابق استراتيجية ضبط النفس فى المنطقة مما جعلها بمثابة نقطة ارتكاز للاستقرار الإقليمى وحليف قوى لواشنطن يمكن الاعتماد عليها. على النقيض، عبر مرسى عن رغبته فى استعادة مصر لدورها التاريخى وهى الفكرة التى هيمنت على السياسة الخارجية منذ توليه الرئاسة فى نهاية يونيو 2012. وأتت مشاركة مرسى فى جامعة الدول العربية، فى قمة حركة عدم الانحياز وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كى تعكس سياسة جديدة وتنقل رسالة واضحة ألا وهى أن القيادة الجديدة لأكبر دولة فى المنطقة ليست مستعدة للسماح لأى شخص كى يملى عليها اختياراتها فيما يتعلق بحلفائها فى السياسة الخارجية.
وفقا لهذا التوجه، لم يهتم مرسى فى الشهور الثلاثة الأولى من ولايته بتدعيم العلاقات التاريخية السابقة وهو الأمر الذى انعكس فى مجالين الأول، تحديد أهداف السياسة الخارجية والثانى الرحلات الخارجية التى قام بها. كانت رحلاته الأولى ليست إلى الولاياتالمتحدة أو أوروبا، ولكن إلى إثيوبيا والمملكة العربية السعودية والصين وإيران. فى قمة الاتحاد الإفريقى فى أديس أبابا، أكد مرسى أهمية إفريقيا بالنسبة للقاهرة. فى الرياض شدد على العلاقات الوثيقة بين مصر والمملكة العربية السعودية، وهناك أطلق مرسى مبادرة السلام الإسلامية لحل النزاع فى سوريا بمشاركة إيران إلى جانب المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر. كما أقدم على خطوة للاقتراب من إيران مرسى بالمشاركة فى قمة حركة عدم الانحياز فى طهران. اعتبرت زيارته نقطة تحول، خاصة أن العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين قد توقفت منذ عام 1979، وفى الوقت نفسه كثفت القاهرة الاتصالات مع حماس، وهو الذى وسع الانطباع العام بأسلمة السياسة الخارجية المصرية.
أصيب الكثير من المحللين السياسيين بدهشة كبيرة من تركيز مرسى على السياسة الخارجية بسبب خبرته المعدومة فى هذا المجال، مما يطرح سؤالاً مهمًا ألا وهو: من يرسم سياسة مصر الخارجية؟
فى ظل حكم مبارك، كان يتم اتخاذ قرارات متعلقة بالسياسة الخارجية داخل الدائرة القريبة من الرئيس. بعد مغادرة عمرو موسى صاحب الشعبية الكبيرة لمنصب وزير الخارجية فى عام 2001 من أجل قيادة جامعة الدول العربية، أصبحت وزارة الخارجية لا تلعب دورًا رئيسيا فى رسم السياسة الخارجية. بدلا من ذلك بدأ جهاز المخابرات العامة الذى يتعامل بشكل مباشر مع الرئيس فى إدارة الملفات الرئيسية فى السياسة الخارجية، واعتبر عمر سليمان رئيس المخابرات حلقة الوصل الرئيسية بين مبارك والحكومات الأجنبية.
بعدما استولى الجيش على السلطة فى بداية عام 2011 اكتسبت وزارة الخارجية فى البداية أرضية على حساب جهاز المخابرات. وعين فى منصب وزير الخارجية نبيل العربى، الشخصية ذات السمعة الطيبة فى مؤسسة السياسة الخارجية، وبدأ التقارب مع إيران وانفتاح محدود مع غزة. ومع ذلك، عندما ترك نبيل العربى وزارة الخارجية، تراجع دور وزارة الخارجية مرة أخرى. خلف نبيل العربى شخصية دبلوماسية بدون هوية واضحة، حيث احتل محمد كامل عمرو منصب وزير الخارجية وهو غير معروف بأى طموحات خاصة فى السياسة الخارجية لبلده. وإذا كان المجلس العسكرى على ما يبدو قد وضع قيودًا صارمة على سياسات الرئيس المنتخب حديثا فى مجال السياسة الخارجية، إلا أن التعديلات التى أجراها مرسى فى قيادات الجيش فى أغسطس 2012 قد أطلقت يده فى مجال السياسة الخارجية. ولكن من المفترض أن حرية الرئيس فى إدارة السياسة الخارجية لاتزال مقيدة بالحفاظ على مصالح القوات المسلحة خاصة فيما يتعلق برغبة الجيش فى الحفاظ على المعونة العسكرية الأمريكية المقدرة ب1.3 مليار دولار سنويا.
عوض مرسى نقص خبرته فى مجال السياسة الخارجية من خلال تعيين محمد رفاعة الطهطاوى كرئيس ديوان رئيس الجمهورية. وفقا للدراسة الألمانية فإن الطهطاوى دبلوماسى يتمتع بالخبرة والاحترام حيث خدم فى طهران وطرابلس، ولكن الطهطاوى الذى يشاع أنه على علاقة وثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين لا يتولى إدارة ملف السياسة الخارجية وحده، ويبدو أن الكثير من القرارات يتم اتخاذها بعد التشاور الوثيق مع شخصيات بارزة فى حزب الحرية والعدالة. ينعكس هذا بوضوح فى تعيين عصام حداد فى منصب مساعد رئيس الجمهورية للعلاقات الخارجية والتعاون الدولى. وينظر إلى الحداد، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، بوصفه وزير الخارجية الخاصة بجماعة الإخوان بسبب الشبكة واسعة النطاق التى يمكلها مع الجهات الفاعلة فى الخارج. لكن قبل كل شىء فإن الحداد هو أحد المقربين من الزعيم الروحى لجماعة الإخوان المسلمين ونائب المرشد والعقل المدبر للجماعة خيرت الشاطر. ويعتبر الشاطر أقوى الشخصيات فى جماعة الإخوان وهو سياسى برجماتى. وإلى جانب الشاطر هناك صوت آخر له صدى واسع فى المكتب الرئاسى ألا وهو رجل الأعمال حسن مالك الذى يمثل جناح الحركة التجارية الصاعدة للجماعة. فى يوليو 2012 تم تعيين مالك متحدثًا باسم لجنة من كبار رجال الأعمال التى أنشأها مرسى. كما قاد الوفد التجارى رفيع المستوى الذى رافق مرسى للصين فى أول زيارة دولة له.
على الرغم من التأثير واضح المعالم لجماعة الإخوان إلا أن السياسة الخارجية المصرية الجديدة لا تتماشى تماما مع المشروع الإسلامى، كما أن مختلف التيارات السياسية فى مصر لا تعارض فكرة أن يكون لمصر دور فى القيادة الإقليمية بالمنطقة أو فكرة وضع نهاية للتبعية للغرب، الأهم من مختلف التيارات السياسية فإن مثل هذه السياسة الخارجية من الطبيعى أن تلقى ترحيبًا لدى الشعب المصرى. محاولة كسب رضا الشعب المصرى هو الهدف الرئيسى من وراء هذه السياسة الخارجية، خاصة أن مرسى لم يحقق أى نجاح يذكر فى مجال السياسة الاجتماعية والاقتصادية والمحلية، ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية فى 2013 يأمل مرسى أن تسهم السياسة الخارجية فى تحويل الأنظار عن القرارات غير الشعبية التى يمكن أن تعرض نجاح الحرية والعدالة فى الانتخابات للخطر.
على ناحية أخرى تأتى هذه السياسة الخارجية التى يسعى مرسى لتطبيقه لكى تتناقض مع إمكانيات مصر المحدودة فى ذلك الوقت، حيث يفتقر البلد إلى الموارد المالية والوسائل العسكرية كى تكون قوة إقليمية. وقبل كل شىء، يتعارض هذا المسار الجديد ولو على الأقل بشكل جزئى مع الاحتياجات الاقتصادية لمصر. فى نهاية المطاف، على المدى القصير، على حكومة مرسى أن تحافظ على استقرار البلاد الاقتصادى خاصة أن منذ بداية عملية التحول السياسى، والاحتياطى من النقد الأجنبى قد انخفض إلى أكثر من النصف، ووصل حاليا إلى نحو 15.5 مليار دولار. وتواجه مصر انخفاضًا محتملاً فى قيمة العملة مما يعنى ارتفاعًا حادًا فى الأسعار، ولتجنب هذا الاحتمال تحتاج البلاد إلى معونات كبيرة من الخارج. وفى هذا السياق يبدو بالتأكيد تنويع الشركاء الدوليين وسيلة معقولة لتعزيز موقف البلاد التفاوضى.. ولكن فى ضوء الوضع المالى المتدهور للبلاد، ليس من مصلحة مصر صد شركائها التقليديين، خاصة أنها تعتمد بشكل كبير على المساعدات المالية من الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبى ومن المؤسسات الدولية المانحة التى يسيطر عليها الغرب.
إلى جانب مشكلة الميزانية، على مرسى ومستشاريه الربط بين قرارات السياسة الخارجية والتنمية الاقتصادية طويلة المدى للبلاد. أكثر من 50 % من الصادرات المصرية تذهب إلى الاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدة. وحتى عام 2011 أكثر من ثلثى صافى الاستثمار الأجنبى المباشر فى مصر يأتى من تلك المناطق. وفقال للدراسة فإن رجال أعمال جماعة الإخوان الذين يؤثرون بقوة فى عملية صنع القرار يدركون تماما هذا البعد، خاصة أن أشخاصًا مثل خيرت الشاطر وحسن مالك لا يهتمون فقط بالآفاق الانتخابية الطويلة الأجل لجماعة الإخوان المسلمين، ولكنهم يهتمون أيضا بالفرص المالية الخاصة بهم فى التعاون مع الشركات الغربية.
نظرا لعدم وجود وسائل متعددة للتعامل مع اصطدام المصالح، تظل السياسة الخارجية لمرسى هى سياسة رمزية إلى حد كبير. فى الواقع، لم يتغير كثيرا منذ عهد مبارك. ولم تؤد العلاقات الدافئة مع حماس إلى فتح شامل لحدود مع غزة أو نتج عنها أى تدهور فى التعاون الأمنى بين اسرائيل ومصر. فى المقابل كان هناك تنسيق وثيق مع الإسرائيليين فى إطار اتخاذ مصر لإجراءات مشددة تجاه الهياكل الإجرامية والإرهابية فى سيناء. وفى أكتوبر رفض مرسى فكرة وجود منطقة تجارة حرة مع غزة، أعلن بدلا من ذلك مواصلة تشديد التدابير الرامية إلى القضاء على التهريب عبر الحدود للسلع عبر أنفاق تحت الأرض.
فى هذا الإطار فأن التهليلات بصوت عالٍ حول تطلعات القيادة الإقليمية لا تزال إلى حد كبير خالية من أى جوهر حقيقى. على سبيل المثال فشلت مبادرة مرسى الخاصة بسوريا فى تحقيق أى نتائج ولم يقدم بشكل واضح أى مقترحات أخرى بعد الاقتراح بتشكيل اللجنة الرباعية. ويبقى فى النهاية أمام مرسى اختبار صعب يتمثل فى تحقيق التوازن بين الشرعية الشعبية المحلية والقيود الاقتصادية