كنت معتادًا على متابعة البرنامج الشهير "حالة حوار" والذي كان يذاع على شاشة التلفزيون المصري، ومعجب بأسلوب مقدمه الشيق وطريقة عرضه الفريدة، حديث الرجل ومحاورته لضيوفه؛ كانت تُظهر الجهد الذي يبذله في التحضير للموضوع الذي يناقشه، واختياره لضيوفه من رموز السياسة والأدب والاقتصاد وكل المجالات، كانت توضح مدى حرصه على أن يقدم معلومة دقيقة ورؤية واضحه حول كل ما يتم عرضه ومناقشته، وموضوعية النقاش وجدواه حول القضايا التي تهم الناس تبين حرصه على أن يضع حلولًا لكل من يهمه الأمر، فلم تكن الحلقات مجرد صخب إعلامي أو ثرثرة بكلمات يملأ بها ساعات البث، بل كانت رسالة إعلامية وطنية بناءه باقتدار. وفي أحد مقدمات البرنامج رثى الدكتور عمرو عبد السميع مقدم البرنامج حال الإعلام بجملة "ترترة جرائد أخر الزمان وفضائيات آخر الليل"، وإن كان الإعلام وقتها أفضل حالًا من اليوم، لكن الرجل وجد أن بعض الأمراض قد تسللت إليه فأفقدته روحه الموضوعية والدقيقة، والذي لا أدري لو سُئل عنه اليوم ماذا يقول فيه؟. وبعد مضي كل هذه السنوات لم أجد أبلغ من هذه الجملة التي كانت نتاج خبرة ورؤية لواحد من الإعلاميين البارعيين، لأصف به ما وصلت إليه هذه المهنة من عبث واستهانة بدورها الحقيقي، وأصبحت مهنة صوت الحق وضمير المجتمعات تهذي بكلمات الباحثين عن الإثارة، فعلا صوتهم على أساتذة وأصحاب رأي وأدباء وشباب طامحين إلى أن يعيدوا للمهنة مصداقيتها ودورها في بناء المجتمع، وأن تجري في شريانها دماء المعرفة والوعي. تفاهة المعلومة هي المانشيت الرئيسي في كثير من الأحيان، ما دامت تعود على صانعيها بقراءات ومتابعات أكثر، السبق الصحفي تحول إلى لهث خلف التريند، وباتت التقارير الناجحة هي التي تجذب زوارًا أكثر إلى الموقع، وليست هذه التي تقدم معلومة واقعية ودقيقة، حيث أصبحت المعلومة الزائفة هي الطعم الذي يُقدم "لجر رجل الزبون" إلى أعماق الموقع، وبات التسابق على المعلومة أثير الفضائح والجدل، وخصوصية كثيرين أصبحت على الملأ ولا عبرة بآداب المهنة وتقاليدها. فتستطيع القول أن الأمر تحول إلى ترفيه ضار بقيمنا وتقاليدنا، وبات أرشيف الإعلام عبارة عن كم مهول من الصور المبتذلة والقصص الخادشة للحياء، حتى صار المحتوى الإعلامي في كثير من الأحيان يجسد الأسطورة المخيفة "مثلث برمودا"، يذهب بك بعيدا عن نقطة الوعي ويجذبك من واقعك إلى نقطة مشوشة ومغلوطة تفقد خلالها بوصلتك في إدراك القضايا التي تهم المجتمع، وبدل من أن يدور النقاش نحو تصويب وتعديل مسار دفتنا الاجتماعية لنبحر نحو مستقل آمن، عاد بنا إلى آخر الزمان وظلمات منتصف الليل.