نقرأ على علب الدواء والمبيدات وأى مادة يُشكل سوء استخدامها خطرا على الصحة العامة عبارة "يحفظ بعيدًا عن متناول الأطفال". لماذا؟ لأن الطفل لم يدرك بعد خطر تلك المواد؛ لأنه فى مرحلة استهلاك فقط. ومن الفكرة البسيطة دعونا نسأل سؤالًا فى مستهل المقال يلخص ما سوف يتم بيانه وتشريحه لاحقًا. هل توجد أفكار عامة تنطبق عليها نفس الشرط فى حالة المواد الخطرة سابقة الذكر، بمعنى آخر هل يوجد تصنيف عمرى/ حضارى للمجتمعات حال تبنيها لأفكار معينة أو تركها لأخرى؟ ميلاد المجتمع...أى مجتمع يمر بمراحل نمو عدة خلال رحلته عبر الزمن بمحطاته الثلاث (الماضى والحاضر والمستقبل). أولًا مرحلة الطفولة (مرحلة جنينية البذرة - مرحلة الإستهلاك): يخطو المجتمع خطواته الأولى معتمدًا على غيره من المجتمعات ممن سبقوه لمرحلة الشباب فيأخذ منهم عنفوان القوة، وبإعتماده بطريق غير مباشر على جيلين ممن سبقوه فى مرحلة الشيخوخة فيأخذ منهم خبرة الحياة، فى هذه المرحلة لا يأخذ تلك المفردات أخذ نزوع وحركة وممارسة، بل يتشبعها فى جيناته لتكون رصيدًا وميراثًا له عندما يمر على مراحل الشباب والشيخوخة. وتلك المرحلة أعنى الطفولة تحتاج لرعاية من نوع آخر؛ حتى تستطيع الاستيعاب المستمر عبر مستقبلات الحس الآخذه فى النمو المطّرد حسب طبيعة المواد المستَقَبلَة الآخذه فى الزيادة والتعقيد هى الأخرى؛ بُغية إعداد الطفل وتسليمه لمرحلة الشباب وهى أكثر تعقيدًا وتشابكًا والتحامًا بمفردات الحياة عبر التأثير والتأثُر. ثانيًا مرحلة الشباب (مرحلة النمو الخضرى - ذروة الإنتاج): مدخلاتها تكون من مخرجات مرحلة الطفولة وهى مرحلة النزوع والحركة والفعل والنشاط والتأثير والفعالية والتحصيل ومراكمة الإنتاج. هذه المفردات الإيجابية تتحقق جميعها أو أغلبها حال كانت مخرجات مرحلة الطفولة سليمة سوية كمًا، من حيث الأعداد وكيفًا، من حيث ما تم زرعه من أفكار فى عقول تلك الأعداد، وتنقلب لضدها حال عدم صلاحية مخرجات مرحلة الطفولة لأن تكون مدخلات فى مرحلة الشباب...مثال عن عدم الصلاحية كأن تكون الأطفال غير سوية نتيجة الاستهلاك المباشر/غير المباشر للمخدرات وبالتالى هى غير مؤهلة لتحقيق المفردات الإيجابية سالفة الذكر عندما تضع قدمها فى دنيا الشباب. ثالثًا مرحلة الشيخوخة (مرحلة الثمار): مرحلة تبلور الخبرة والنضج والكياسه والحكمة هذا فى جانبها الإيجابى، أما جانبها السلبى فيتجلى فى محدودية الحركة وقلة النشاط والفعالية وانخفاض درجات التأثير. وقد يتم تعظيم الجانب الإيجابى حال كان مُجتمعًا راشدًا يستفيد من إنسان مجتمعه فى مراحل نموه الثلاث ويعتبرها سلسلة إمداد واحدة. (تواصل الأجيال)، وعلى النقيض قد يُعظِم الجانب السلبى بإعلاء القيم الفردية وعلمنة الأسرة بتحويلها من ممتدة - بها جد وجدة - إلى نووية تقتصر على الأب والأم والأبناء مع إفقاد كل منهم دوره وفاعليته فالأب يصبح آلة جلب نقود والأم تمتعض من كونها أماً ومربية وأساس للأسرة، والأبناء يعتبرون البيت فندقًا للأكل والمبيت فقط، وتفقد الأسرة كل العلاقات مع بعضها البعض ومع محيطها من الأقارب والجيران...إلخ. وبذلك نتحول إلى مفهوم جديد أُسميه (ضد مجتمع) يتحقق حدوثه عبر عدة عوامل وسيطة – كوبرى - أكثرها تأثيرًا ووزنًا تفكك الأسرة كما سبق توضيحه. وبعد استعراض مراحل نمو المجتمع الثلاث، دعونا نسأل سؤالًا أكثر تركيبًا وتعقيدًا من ذى قبل، ما الذى يجعل مجتمعًا ما لا يغادر مرحلة الطفولة؟ وما المبررات (المقومات) التى تجعل مجتمعًا آخر دائم الشباب وقادرا على تجديد واستيلاد تلك المرحلة؟ وأخيرًا...ما الذى يجعل مجتمع ثالث غير قادر على مغادرة محطة الشيخوخة؛ ليعيد دورة الميلاد مرة أخرى من بداية مرحلة الطفولة؟ السبب الجوهرى لعدم قدرة أى مجتمع على مغادرة مرحلة الطفولة هو استدامة الاعتماد على غيره القريب من داخل (مجتمعُه الطفل)، والبعيد من خارج مجتمعُه بإعتماده على مجتمع يعيش نمطا آخر مغايرا من الطفولة، لكنه بعيد عنه جغرافيًا، وتلك الفكرة البسيطة هى جوهر العولمة التى توسع دائرة الإنتماء بل وتعددها لتجعها إنتماءات عديدة لثقافات أكثر تعدُدًا، وللبرهنة على أن مجتمع ما بكاملة يعيش مرحلة طفولة ( مرحلة الاستهلاك النهِم وعدم التكليف). أعطيك مثالًا بسيطًا: مشاهدة ابنك لأفلام الكارتون انتماء جديد لثقافات أخرى بدء مبكرًا، وتُشكِل موافقتك أنت/أنتى على مشاهدة طفلك تلك الأفلام أغلب الوقت بغرض إلهائه هى طفولة مستمرة منك، وموافقة جده أو جدته على المشاهدة بهدف السيطرة عليه فى جغرافيا المنزل وخوفًا من إفراط حركته صعبة المسايرة منهم؛ لكبر أعمارهم ومحدودية حركتهم تُعد طفولة أيضًا، وبهذا نحن أمام تبلور لمفهوم طفولة مجتمع يستهلك ولا ينتج خارج دائرة المسئولية والتكليف، ولا يُرجى خروجه منها سريعًا؛ لأنه تكيف مع تلك الحالة وغير قادر على بدء دورة الميلاد والنمو للمجتمع من جديد أى أستطيع تسميته ( مجتمع طفل). أهم ملامح المجتمع الشاب: لكى يصل مجتمع ما لمرحلة الشباب، لابد أن يتمم أولًا طفولته بكل تفاصيلها، فتلك المرحلة – مرحلة الشباب- فيها تحدث متلازمة الإستهلاك والإنتاج، يكون الإستهلاك أقل ليسمح بتراكم الإنتاج وفوائضه لمرحلة قادمة من عمر المجتمع تقل فيها الحركة والإنتاج هى الشيخوخة. محطة شيخوخة المجتمع: كل مجتمع يحوى بداخله الأطفال والشباب والشيوخ...فالمجتمعات متشابهة جميعها فى هذا التكوين العضوى، أما ما تختلف فيه هو نسيج أفكارها – السوفت وير البشرى - المكّوِن الأساسى لثقافتها وبالتبعية حضارتها، أى ما أعنيه هو تبنى المجتمعات لأفكار فى مرحلة الطفولة، وأخرى فى شبابها، وأخيرًا الفكرة التى تعانى الشيخوخة، فقد يحدث أن يعانى مجتمع من خلل عضوى فى هرم السكان لديه، إزدياد المعالين ( الأطفال والمسنين) لكنه يستهلك أفكارا شابه فلا يكون لديه مشكله، وقد يحدث فى مجتمعات تُشكل لديها الشباب الشريحة العظمى من هيكل سكانها – أغلب الدول النامية- إلا أنها تستهلك أفكارا بالية فى مرحلة الشيخوخة، فعُمر الفكرة وصلاحيتها هو المحُدِد الأهم للنهضة ومراكمتها نحو الحضارة بعيدة المدى ووليدة النفس الطويل للمجتمعات. وأخيرًا.. المجتمعات الراشده هى التى تمر ببراءة طفولتها، وقوة وإنتاج شبابها، وخبرة شيوخها...تلك هى المجتمعات القادرة على إعادة دورة الحياة الإجتماعية ولحظة الميلاد من رحِم الجغرافيا وصُلب التاريخ. الخلاصة...ميلاد المجتمع يبدأ بإعداد جيل من الأمهات يعرفن أو لديهن القابلية لقيمة الأمومة والتربية وبناء الأسرة معنى ومبنى، ولا تعتمد على الأمهات الجُدد ضحايا العلمنه والعولمة وأشباه الآباء من ماكينات الصرف الآلى.