بعد أن ناقشنا الثلاثة عناصر الأولى مما لا يمكن أن يُعد حجة على صحة رأي أو وجهة نظر، نوضح في هذا المقال العنصر الرابع، وهو: "الأحاديث الصاخبة التي لا تعبأ بالأطراف الأخرى في النقاش". عزيزي القارئ، كلمة "نقاش" أو "حوار" أو "محادثة" أو "حِجاج" تعني أن هناك عملية يشترك فيها أكثر من طرف ويتبادلون الأدوار فيما بينهم فيصبح المتكلم مستمع والمستمع متكلم طوال فترة النقاش، ومن غير المعقول أو المقبول أبدًا أن يستأثر أحد الأطراف بالحديث أو يطلب من الجميع أن يستمعوا له دون أن يمنحهم فرصة للتعبير عن وجهات نظرهم المختلفة ويثبتوها بالأدلة والبراهين. ولا يخفى على الكثير منا أن عددًا كبيرًا من محادثاتنا اليوم قد فقدت حتى معناها الذي تشتقه من مسماها "محادثة" وصارت أشبه بخطبة يلقيها أحد الأطراف على مسامع الآخرين مطالبًا إياهم بالاقتناع بوجهة نظره، ومكممًا لأفواههم جميعًا، ومقاطعًا لهم في كثير من الأحيان حتى يقتص من كلامهم ما يهاجمه فيدحضه بسهولة ويثبت خطأه وسذاجتهم بالتبعية. إنني اسأل القارئ الكريم: كم مرة استطعت أن تعبر عن وجهة نظرك بحرية كاملة مستغرقًا في ذلك الوقت المناسب للتعبير عنها من دون مقاطعة؟ كم مرة لم تصبر الأطراف الأخرى حتى تنتهي من كلامك؟ هل سبق وأن تأففت لأن أحد الأطراف يحاول أن يكون بؤرة اهتمام الجميع بالتحدث بشكل دائم لدرجة أنه لا يسمح للأطراف الأخرى أبدًا بمقاطعته بينما يستبيح هو وجهات نظرهم بمقاطعتها على الدوام؟. إن حسن الإنصات للآخرين وإعطاءهم الوقت الكافي للتعبير عن آراءهم يعد دليلًا كبيرًا على التحضر والرقي، بينما تعد مقاطعة الآخرين وعدم السماح لهم بالكلام دليلًا على الغوغائية الشديدة وصورة من أشد صور الهمجية بؤسًا. ولعل أحد أهم القواعد التي قرأتها حول حسن الإنصات كانت أنه لو تكلم اثنان لمدة نصف ساعة مثلًا فكانت الفترة التي تكلمها الأول ضعف الفترة التي تكلمها الثاني، فلا يمكن أن يٌعد هذا حوارًا. ومعنى هذا أنه لو تكلم الطرف الأول عشرين دقيقة والثاني عشر دقائق فقط، فإنه لا يمكن أن يوصف ما دار بينهما بالحوار. وربما تكون أطرف القصص التي سمعتها على الإطلاق في هذا الموضوع هي أن إحدى الممثلات الأمريكيات التقت صديقة لها بعد فراق عشر سنوات فظلت الممثلة تتكلم عن نفسها وأعمالها وحياتها الشخصية لمدة زادت على النصف ساعة ثم نظرت فجأة في ساعتها وقالت لصديقتها: "أنا آسفة جدًا لقد تكلمت عن نفسي نصف ساعة والآن سوف أنصت نصف ساعة حتى تتكلمي أنتِ عن نفسك." والمأخوذ من هذه القصة ليس فقط وعي الممثلة بأن لصديقتها الحق في أن تتكلم بالقدر المماثل لما تكلمت به هي، لكن الأهم هنا هي أنه مهما اعتقدت أنك بارع أو "مهم" أو أكثر علمًا من غيرك فإن هذا لا يجب أن يكون دافعًا لك أبدًا لانتهاك حقه في الكلام وفي الإدلاء برأيه هو الآخر. ومن المؤسف حقًا أن في الكثير من الحالات يطالبنا الكبار بالاستماع والإنصات لهم لننهل من معينهم ونتعلم من خبراتهم في حين قد يرى أحدنا، نحن الشباب، أن ما يقول به الكبار ينقصه الدليل أو تعوزه الحُجة، أو حتى قد "عفا" عليه الزمن فلم يعد له وجاهته في يومنا هذا. والخلاصة، إن من الأدب حسن الإنصات للآخرين وترك مساحة كافية لهم للتعبير عن ما بداخلهم من آراء أو وجهات نظر قد نختلف معها أو نتفق، وإن من الهمجية والغوغائية أن نستأثر بالحديث ظنًا منّا أننا الأعلم أو الأذكى أو الأكثر خبرة وأن على الآخرين أن يستمعوا لنا ويأخذوا كلامنا كالمسلمات التي لا نقاش فيها. وإنني على يقين أن التعاون في الحوار وحسن الإنصات سيجعل الإنسان محبوبًا بين معارفه وفي بيته وأسرته أيضًا. وفقنا الله لما يحب ويرضى وهدانا سبل الرشاد.