يعود بنا العنصر الثالث مما لا يمكن أن يُعد حجة أو دليلًا على شيء، كما جاء في موقع كلية ميسا (Mesa) في مقال مقتضب حول معنى الحجة والحِجاج، إلى قضية الاختلاف الجوهري بين الرأي والحقيقة التي تحدثت عنها في مقال بعنوان "بين الرأي والحقيقة". في ذلك المقال أوضحت أن عدم تفريق أطراف المحادثات والنقاشات اليومية بين مفهوم الرأي الذي يخضع للأهواء والميول الشخصية وبين مفهوم الحقيقة الثابتة التي لا يجب أن يكون هناك جدال حولها يؤدي إلى تحول تلك النقاشات إلى صراعات وحفلات للصراخ يظل الخاسر الأكبر منها هو نحن أنفسنا. وفي هذا المقال نعود ونؤكد على أهمية التفريق بين الرأي والحقيقة حيث أنه العنصر الثالث في ما لا يعد حجة أو دليل، وهو: المعلومات الحقيقية غير القابلة للنقاش. وحتى يتضح المُراد من الكلام هنا فإنني أذكر القارئ الكريم أن الطريقة الصحيحة للتعبير عن الرأي تكون بإضافة كلمة أو عبارة تنسب الرأي لصاحبه مثل (من رأيي، من وجهة نظري، أعتقد، أرى، أظن)، أما إطلاق الكلام على عمومه فإنه قد يجعل الأمور تختلط على السامع فيظن أن المتكلم إنما يُقر حقيقة، وهو في الواقع يعبر عن رأيه. ولعل القارئ الكريم يذكر المثال الذي عرضته في مقال "بين الرأي والحقيقة" للتدليل على أن هناك معلومات لا يجب الجدال فيها مطلقًا فهي حقائق ثابتة. وقد كان المثال هو: "فازت الأرجنتين بكأس العالم عام 1986". فمن المفترض أن لا يجادل أحد في هذه الحقيقة، فهي لا تخضع للرأي وليس هناك أي مجال للنقاش فيها. ولأن "المفترض" ألا يحدث كثيرًا ما يحدث والعكس، فإنني كنت في إحدى الندوات التي كانت تناقش مفهوم الحضارة والثقافة وارتباط ذلك بمفهوم المجتمع، وقد تطرق اثنان من الحاضرين في فترة الاستراحة للنقاش حول كرة القدم كالعادة. وبدأ الحوار بنقاش هادئ حول أفضل اللاعبين الحاليين وهل رونالدو أفضل أم ميسي، وغيرها من الأمور. لكن سرعان ما انزلق الحوار الهادئ إلى قليل من التعصب عندما ذكر أحدهم أن مارادونا أفضل من ميسي فرفض الثاني هذا الرأي، فتبارى الاثنان على إثبات وجهة نظريهما في أفضلية الأول على الثاني أو الثاني على الأول، حتى ذكر أحدهما أن مارادونا فاز بكأس العالم قائدًا للأرجنتين 1986 في حين يعجز ميسي عن هذا حتى الآن. هنا وقع الطرف الثاني في خطأ شديد بقوله إن الأرجنتين لم تفز بكأس العالم وقتها لأن مارادونا أحرز هدفه الشهير بيده في إنجلترا في الدور قبل النهائي وهذا الهدف عبر بالأرجنتين إلى الدور النهائي، وبذلك لم تفز الأرجنتين بكأس العام عامها لأنه بمنتهى البساطة... جون ظلم. وهنا نقول، بغض النظر عن الهدف الشهير الذي سجله مارادونا بيده، وبغض النظر عن الظلم الذي وقع باحتسابه هدفًا، فإن التاريخ يذكر أن الأرجنتين فازت بكأس العالم عام 1986. ولأن تلك حقيقة ثابتة، فإنه لا معنى أبدًا للجدال فيها، ولا يمكن أن يُعد الرأي الشخصي حول حقيقة ثابتة أمرًا مشككًا فيها أو سببًا لإعادة النظر فيها. إن تاريخ الإنسانية مليء بالحقائق والأرقام، وليس من الحكمة إضاعة أوقاتنا في الجدال فيها. كما أن الآراء الشخصية تبقى في نهاية الأمر مجرد آراء شخصية لا تنقلب بسببها الحقائق. ومن هنا أدعو الجميع إلى تجنب النقاش والجدال حول ما لا جدال فيه.. اسأل الله أن يهدينا جميعًا سبل الرشاد.