منذ أربعة وثلاثين عاما وبالتحديد فى أوائل حقبة الثمانينيات حيث كنت حينها طفلا لا يتعدى عمره السبع سنوات ولكنى أتذكر بدقة ذلك اليوم المرعب - السادس من أكتوبر لعام 1981 - كما لو أنه الأمس، فبينما كنا نتابع احتفالات نصر أكتوبر المجيد، إذ بنا نفاجأ بالحدث الأليم فى المنصة واغتيال الرئيس السادات. بالطبع وكأى طفل فى مثل عمرى لم أدرك بالتفصيل ما حدث، ولكن الأمر أبدا لم يمر مرور الكرام، فقد تشكل فى مٌخيلتى انطباع معين عبرت عنه حينها، فرسمت صورة طفولية لما حدث ولكنها لا تكاد تخلو من الحقيقة بل أظن أنها الحقيقة بعينها. أتذكر يومها أننى أمسكت بالقلم الرصاص، وقد كنت أهوى الرسم وموهوبا فيه منذ صغرى، ورسمت رجلا لا تُميز من ملامحه إلا لحية طويلة وقرون الشيطان التى أخرجتها من رأسه، ثم أمسكت الفرشاة المنقوعة فى علبة اللون الأحمر وظللت كل جنبات الورقة بها إلا جانبا واحدا جعلته باللون الأخضر وكتبت فوقه بألوان خشبية بيضاء كلمة "ربنا"!! ربما لم يدرك أبوي ما أعنيه بتلك الرسمة الطفولية الساذجة، بل وربما أيضا لم يعيرانى انتباها حين سألتهما بالتفصيل عما حدث، ولكن الأمر لم يكن مجرد "لعب عيال"، هكذا أخبرتنى مدرستى الحبيبة "ميس إيزيس"، وهي بالمناسبة لم تكن مجرد مُدرسة لغة إنجليزية بل كانت الأخت والأم والحبيبة والمثل الأعلى وكل ما يمكن وصفه من علاقات الارتباط الوجدانى العميق النقى لطفل فى مثل سنى.. أتذكر أنى أطلعتها على الصورة كى أعرف رأيها، وحينها أدرَكت هي على الفور ما أعنيه فتبسمت ثم احتضنتنى ثم أثنت على الرسم وقالت مبتسمة: يا حبيبى "الله لا يموت"!! هكذا ظلت تلك الجملة عالقة فى ذهنى طيلة السنوات الماضية، أستحضرها فورا مع كل واقعة مشابهة.. حقا إن الله لا يموت أبدا فهو سبحانه الحاضر والشاهد يسمع ويرى ويدبر الأمر كله. بدأت تلك الأستاذة الفاضلة تعلمنى دروسا فى الحياة لا أنساها ما حييت، فقد علمتنى أن أنطق بما أشعر، وإن لم استطع البوح بما فى داخلى بلغة الكلام فلابد أن أكتبه، فإن لم أستطع كتابته فلابد أن أرسمه، وهكذا أفعل حتى وقتنا هذا. أدركت معلمتى أن هذه اللحية تشير إلى القاتل مُدعى الدين، وأن القرون تشير للشيطان، وأن اللون الأحمر لون الدم والدمار، وأن اللون الأخضر لون السلام والجنة، وأن كلمة "ربنا" تعبر عن كامل المعنى وهو أن الرجل الملتحى الشيطان يحارب الله ويريد قتله وهو كذلك بالفعل، فحين نعطى لأنفسنا حق محاسبة الخلق والحُكم عليهم بالموت وتنفيذ الحكم غدرا لمجرد أنهم يخالفوننا الرأى أو طمعا فى حكم أو منصب زائل فحينها نكون بالفعل فى حرب مع الله، ولذلك علمتنى أن الله لا يموت وأنه سيدحضهم جميعا ولكن كلٌ بأوان، وأن هؤلاء القتلة ليسوا من الإسلام فى شىء، فلم يأمر أى دين بقتل الأبرياء.. هكذا كانت رغم أنها على غير دينى إلا أن الأخلاق والمبادئ لا تتجزأ ولا تتبدل فى أي دين.
أستاذتى الغالية.. طيلة السنوات الماضية وأنا أحاول الوصول إليكِ ولكن دون جدوى.. قالوا هاجرت للخارج منذ زمن وقالوا أشياءً أخرى شتى.. فلكِ السلام فى أي مكان كنتِ ولك التحية المباركة والشكر الموصول والدعاء الذى لا ينقطع، فأنتِ كنتِ ومازلتِ وستظلين دوما معى بكل ما تعلمته منكِ.. شكرا ميس إيزيس.