أسابيع قليلة وتبدأ الانتخابات التمهيدية للأحزاب اليسارية واليمينية في فرنسا، وعلى الرغم من تسلم الاشتراكيين مقاليد الحكم في فرنسا، إلا أن هذه الميزة لم تمكنهم، على ما يبدو، من اكتساب الشارع الفرنسي. وأظهر آخر استطلاع للرأي تقدم الجمهوري آلان جوبيه، في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية ب35 % من أصوات الناخبين، متفوقا بفارق 8 نقاط على مارين لوبين، زعيمة الجبهة الوطنية، وإذا استمر الفارق بالاتساع، فمن الممكن إقصاء اليسار من الدورة الأولى للانتخابات في مايو 2017، كما سبق وحدث في انتخابات 21 أبريل عندما تم إقصاء اليسار متمثلًا في شخص ليونيل جوسبان، وتأهل وقتها للدورة الثانية كل من الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، واليمين المتطرف ممثلًا في جان ماري لوبين. حلول اليسار في الوقت الحالي يتصدر، آلان جوبيه، رئيس وزراء فرنسا، أيام الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، المشهد الانتخابي في حزب الجمهوريين اليمين التقليدي، في الوقت نفسه تشير استطلاعات الرأي الفرنسية إلى هزيمة اليسار الحاكم أو المعارض في كل السيناريوهات السياسية المتوقعة، سواء تبوأ الرئيس أولاند، قيادة المعركة الرئاسية لطلب ولاية ثانية، أم حل مكانه رئيس الحكومة مانويل فالس، في ظل الاستعدادات التي يقوم بها مقربون منه تحسبًا لأي انسحاب طارئ لفرانسوا أولاند. كما أن معاهد استطلاعات الرأي لا تمنح الآمال لليسار وتتوعده بهزيمة ساحقة ستكون، بحسب المراقبين، ضربة موجعة لمكوناته التقليدية وسترغمه على إعادة هيكلتها. ولا تتوقف مشكلة اليسار في الحياة السياسية عند الانتخابات الرئاسية، فكما معلوم بأن هناك انتخابات تشريعية تلي الرئاسية، وهي الخطوة التي تركز عليها الأحزاب اليسارية في حال أخفقت في الانتخابات الرئاسية، ولكي تنعش هذه الأحزاب الرئاسية آمالها الانتخابية أخذت تبحث في دفاترها السياسية القديمة عن شخصيات تستطيع انتشالها من ورطتها، فاستقر بها الحال على 3 شخصيات لها مسيرتها السياسية والمشروع السياسي الذي تحمله. جان لوك ميلونشون، زعيم جبهة اليسار القريبة من التيار الشيوعي، والذي رفض المشاركة في الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي، انطلاقا من اقتناع بأنه ليس بحاجة لمباركة هذا الحزب الذي يعيب عليه أنه تخلى عن مسؤولية تجسيد هموم الطبقة العاملة التي أصبحت تئن تحت أوزار العولمة المؤلمة وأنه سيخوض معركته وحده. ويعتبر ميلونشون، من أبرز المنتقدين لأداء الرئيس أولاند، ومقاربته السياسية، حيث يتهمه بأنه لا يتفاعل بشكل جدي وإيجابي مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الفرنسيون. الشخصية الثانية هي أرنو مونت بور، والذي قبل بمبدأ المشاركة في الانتخابات التمهيدية لكن بهدف وحيد هو محاولة الفوز بثقة المناضلين اليساريين الذين خيب آمالهم فرانسوا أولاند. يذكر أن مونت بور، استقال من حكومة مانويل فالس بسبب خلافات أيديولوجية مع السياسية التي تبناها فرانسوا أولاند، ويتهم الرئيس أنه تخلى عن البرنامج الانتخابي الذي فاز على أثره بثقة الفرنسيين بانتخابات عام 2012، وأنه اتبع سياسة تليق أكثر باليمين وتهدد ما يسمى إعلاميات بالمكتسبات الاجتماعية الفرنسية. الشخصية الأخيرة هي، إيمانويل ماكرون، وهو المستشار الرئاسي الذي أصبح وزيرا للاقتصاد قبل أن يستقيل من منصبه ويطلق حركة سياسية تهدف إلى إيصاله إلى قصر الإليزيه، الأمر الذي دفع بعض الساسة باتهامه بالخيانة ونكران الجميل. ماكرون، حتى الآن لم يفصح عن نواياه الانتخابية، لكن كل المؤشرات والخطوات التي قام بها توحي بأنه يستعد لمعركة الرئاسة، وبالرغم من أنه أكد من أن حركته لا تنتمي لا لليسار ولا لليمين، فإن هناك شخصيات يسارية تعول عليه الكثير لتجديد مقاربات اليسار وإعطائها رونقا يتلاءم مع متطلبات العصر. مستقبل أولاند في الوقت الذي يشير استطلاع للرأي أجراه معهد "إيفوب" لصالح جريدة "لوموند" الفرنسية، إلى تراجع شعبية الرئيس الفرنسي أولاند إلى 4 بالمئة فقط لدى الفرنسيين، وهي أدنى نسبة يسجلها رئيس فرنسي منذ بداية الجمهورية الخامسة عام 1958، تزداد التساؤلات حول مشاركة أولاند، في الانتخابات التمهيدية التي سينظمهما حزب التحالف الشعبي الجميل "معسكر اليسار" في بداية السنة المقبلة. وفي هذا السياق، ربط الرئيس الفرنسي فكرة ترشحه لولاية ثانية بتقليص نسبة البطالة في فرنسا، وهو هدف أصبح من الصعب أن يحققه رغم التراجع الطفيف في أعداد العاطلين عن العمل في شهر سبتمبر الماضي، حسب إحصائيات وزارة العمل، وللحيلولة دون وقوع الحزب الاشتراكي في مأزق سياسي، بدأت بعض الأصوات ترتفع وتطالب بتمثيله بشخصيات بديلة عن أولاند، على غرار مانويل فالس، وسيغولين روايال، وزيرة البيئة في حكومة فالس، ومارتين أوبري، رئيسة بلدية ليل الشمالية. ويرى بعض المراقبين أن الوضع الاقتصادي المتدهور، وقانون العمل، وأزمة الإرهاب التي طالت فرنسا، لم تكن الأسباب الوحيدة التي عصفت بشعبية أولاند، إلى هذه الدرجة، فالأحزاب الاشتراكية في أوروبا بصورة عامة يتهددها مصير مجهول يصب لصالح الأحزاب اليمينية فيها، فالحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا يشارك في ائتلاف كبير مع الحزب المسيحي الديمقراطي بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل، تاركا التيارات الأكثر يسارية وجذرية تبحث عن أماكنها خارج هذين الحزبين الكبيرين، ولا يختلف الحال في بريطانيا، وكذلك الأمر في إسبانيا، حيث يتأرجح الحزب الاشتراكي بين خيار يساري يقوده إلى التحالف مع حركة "بوديموس" حديثة العهد بالحياة السياسية، وخيار يميني يفضي به إلى التحالف مع الحزب الشعبي. ويبدو أن التيارات اليمينية في أوروبا تعيش حالة انتعاش كبيرة، خاصة بعد مواقفها الحادة والتي تصل إلى حد العنصرية في مجابهة تدفق اللاجئين إلى أوروبا، وهو الأمر الذي يلاقي استحسانًا من بعض الشرائح الشعبية الأوروبية.