حالة من التطابق تقودنا إليها أي محاولة عربية باتجاه الحداثة مع النموذج الأمريكي، فالحالة الوهمية من الملامح شبه العصرية التي يعيشها الوطن العربي هي نتاج محاولات أمريكية، تريد من خلالها أن توهمنا بأن السبل الحضارية تكمن في تبني الأنماط الاستهلاكية والتبعية السياسية المقنعة وغير المقنعة، في الوقت الذي لا تفسح فيه الولاياتالمتحدة المجال لتبني أي منظومة سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية مناهضة لأفكارها ومعتقداتها. عوامل أدت لوجود صلة وثيقة بين المظهر الحداثي والنموذج الأمريكي، فالحداثة التي يعيشها العالم العربي حد التماهي مؤطرة بالثقافة الاستهلاكية وعالم الميديا والتطور التكنولوجي واقتصاد السوق الحر، أي أنها تبقي طموحاته محصورة في الجانب المادي بعيدًا عن الجوانب القيمية والأخلاقية. صحيح أن الحداثة تربط في الوقت الراهن بالتقدم التكنولوجي، إلا أن التغييرات الفكرية كانت الأكثر تأثيرًا، حيث تشمل التغييرات الفكرية السياسة والاقتصاد والدين وعلم الاجتماع. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي أصبحت الولاياتالمتحدة قطبًا أحاديًّا يتفرد بصنع القرارات في العالم من غير منافس، ما مهد لها الطريق في فرض شروطها وأساليب عيشها على الآخرين، فأصبح أي تطور في البنية الاقتصادية والاجتماعية لمعظم بلدان العالم يتمحور حول استنساخ العقلية الاستهلاكية، والدول التي تبنت النهج الأمريكي أصبحت شديدة الشبه بها من حيث ثقافة الاستهلاك والمظهر والشكل، لكنها فقدت في المقابل مقوماتها كدول منتجة ومستقلة في قرارها السياسي. كوريا الشمالية تسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية من خلال سياساتها ومنظمة التجارة العالمية إلى بسط سيطرتها على كل المناطق الحيوية في العالم، ونشر الثقافة الأمريكية والقضاء على ثقافة المجتمعات الأصلية، كما تفعل في منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق ووسط آسيا. كوريا الشمالية تدرك جيدًا هذه المخططات، وتحاول بكل الطرق وقاية نفسها ضد الغزو الأمريكي، والذي طال دول الاتحاد السوفييتي السابق وجنوب شرق آسيا، خاصة أن كوريا الشمالية تتمتع بثقافة فريدة عن غيرها باعتمادها المذهب الشيوعي، حيث تتبنى العقيدة الكونفوشية وتتمتع باندماج استثنائي بين الشعب وحكومته، ما يحيطها بدرجة عالية من الانضباط الاجتماعي، لذلك ترفض كوريا الشمالية الانفتاح على الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تهدد ثقافتها، بالرغم من سعي الولاياتالمتحدة لتطبيع علاقاتها مع كوريا الشمالية بشرط أن تبدي بيونج يانج استعدادًا بالفعل للتخلص بشكل كامل من عناصر برنامجها للتسلح النووي عبر إغلاقها لمفاعل يونغبيون، لكن في ديسمبر عام 2007 توقفت المفاوضات نتيجة الخلاف بين الجانبين على طريقة التحقق من التزام كوريا الشمالية بالاتفاق، ففي إبريل 2009م قامت كوريا الشمالية بتجربة لإطلاق صاروخ طويل المدى مخصص لحمل أقمار صناعية، وقتها اتهمتها الولاياتالمتحدة بالتغطية على تجربة صاروخ باليستي طويل المدى، ونتيجة لهذا قام مجلس الأمن بإصدار قرار غير ملزم يقضي بتشديد العقوبات على كوريا الشمالية؛ مما حدا بالأخيرة إلى الانسحاب من المحادثات السداسية التي ضمت كلًّا من الولاياتالمتحدة والكوريتين وروسيا والصين واليابان، وإعادة تشغيل المفاعل، وطرد المفتشين، والتهديد باستئناف التجارب النووية، وبدأت كوريا الشمالية في تنفيذ تهديداتها عبر إجراء تفجير نووي تحت الأرض، ترافق مع تجربة إطلاق صاروخ قصير المدى. وتعتبر كوريا الشمالية الدولة الأكثر انعزالًا في العالم، حيث إنها منغلقة على نفسها، فخدمة الإنترنت متوفرة في أماكن محدودة جدًّا وتحت رقابة حثيثة، وتسمح بتصفح عدد محدود من المواقع الإلكترونية يقدر ب 5500 موقع فقط، وإذا تمت الموافقة على زيارة كوريا الشمالية، فإن مجموعة مكلفة من الحكومة تقوم بملازمة السياح أينما ذهبوا، كما أن العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها لا تقف وحدها حائلًا في منع ماكدونالدز من افتتاح مطعم في كوريا الشمالية، فهناك رغبة حقيقة من النظام الكوري في عدم التعامل مع أي شيء غربي. إن سياسة الرئيس الكوري الشمالي والتي تعمل دائمًا على إغلاق جميع منافذ الغزو الأمريكي لبلاده، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، إلا أنها استطاعت أن تمنح كوريا الشمالية صفة الندية، فواشنطن قبل أن تقوم بأي تحرك باتجاه بيونج يانج، فإنها تضع في الحسبان أن كوريا الشمالية دولة نووية. إيران لا يمكن اعتبار المناخ الجديد الذي فرضه توقيع الاتفاق النووي الإيراني في يوليو 2015 على أنه انفتاح بين طهرانوواشنطن، فالاتفاق لا يعتبر تمهيدًا لإعادة العلاقات الثنائية بينهما بشكل طبيعي، ففي 9 مارس الحالي مدد الرئيس الأمريكي باراك أوباما العقوبات غير المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني عامًا؛ بسبب ما وصفه ب "تشكيل إيران تهديدًا كبيرًا وغير اعتيادي" على مصالح الولاياتالمتحدة وأمنها، في المقابل قال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي الخامنئي 10 مارس حول ضرورة التعامل مع كافة دول العالم بأنه "يجب أن تكون لنا علاقات مع كافة دول العالم إلا أمريكا والكيان الصهيوني، لكن يجب أن نعلم بأن العالم ليس الغرب وأوروبا حصرًا". التصريحات المتبادلة قاسية اللهجة تعني أن اتفاق 14 يوليو 2015 اقتصر على البرنامج النووي الإيراني فقط، ولا يتعلق بالنزاعات الأخرى التي تختلف فيها طهران مع واشنطن، مثل دعم إيران للتنظيمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية، والتي تصنفها واشنطن على أنها إرهابية، وتطوير طهران منظومة الصواريخ البالستية، والتي انتقدتها هيلاري كلينتون المرشحة للرئاسة الأمريكية بأنه "ينبغي أن تواجه إيران عقوبات على هذه الأنشطة، ويجب على المجتمع الدولي أن يظهر أنه لن يتم التغاضي عن تهديدات إيران لإسرائيل". ويقول مراقبون إنه وعند انتهاء حرب الثماني سنوات بين العراقوإيران، حاولت الولاياتالمتحدةالأمريكية عبر الملف النووي محاصرة وعزل إيران سياسيًّا واقتصاديًّا، إلا أن أمريكا أدركت أن الحرب العسكرية والأمنية وحتى الاقتصادية لا تجدي نفعًا، لذلك حاولت اعتماد نوع آخر من الحروب، سُمِّيَ بالحرب الناعمة، وتجلت بمظاهر الغزو الثقافي، وكانت إيران متيقظة للحروب من هذا النوع، حيث حذر الخامنئي من أن الغزو الثقافي والحرب الناعمة يشكلان خطرًا أكبر من الحروب العسكرية وحتى الحصار الاقتصادي، وكان يقول "إن الحرب الناعمة تخترق القلوب، وتخترق العقول قبل الأجسام". وعلى الرغم من أن إيران تحتل مرتبة متقدمة في الرقابة على الإنترنت، حيث أفاد تقرير سنوي أعدّته منظمة «فريدوم هاوس» بأن إيران تحتل المرتبة الثالثة عالميًّا في هذا النطاق، إلا أنها حافظت على مواقع متقدمة في مجال البحث العلمي، ففي عام 2011 أنفقت إيران 6.3 مليار دولار على البحث العلمي، وفي عام 2012 أصدرت إيران أكثر من 38 ألف عنوان كتاب، وتحتل المركز الأول بإصدارات الكتب في الشرق الأوسط والعاشر عالميًّا. وحول الجدل الذي أثاره افتتاح"كنتاكي" في إيران كنوع من تغلل ثقافة الاستهلاك الأمريكية في طهران، قال نائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية محمود شكري إن المطعم تم إغلاقه؛ لعدم حصوله على تصريح، وأوضح شكري أن إيران لم تمنح تصاريح عمل لأي مطعم أمريكي للمأكولات السريعة. الصين العلاقات الصينيةالأمريكية تشكل نمطًا فريدًا من العلاقات الدولية، بما تتضمنه من عناصر تبدو متنافرة أو متناقضة أحيانًا، مثل التعاون والصراع، والاستقلالية والاعتماد المتبادل، فلا هي منافسة صريحة وإن بدأت تتجه قليلًا في هذا المنحى مؤخرًا، ولا هي عداء مستتر، ولكنها مع ذلك تظل تعمل في إطار توازن دقيق من المصالح المتبادلة والتهديدات المتوقعة، كما أنها تتميز بدرجة كبيرة من التغير، فتنحو إلى درجة متقدمة من الصراع في بعض النواحي، وإلى درجة متوسطة من التعاون في نواحي أُخرى. ويبدو أن وجود علاقات تاريخية قائمة على مبدأ المصالح هي التي تمنع تدهور العلاقات إلى النهاية، وطبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها العلاقات بينهما. الصين وجدت ضالتها في المنظومة الاقتصادية التي تشكلها دول البريكس، فعبرت من خلال هذه المنظومة عن عدم ارتياحها لعالم أحادي القطبية، وأنه من المفروض تطوير العالم ليصبح متعدد القطبية، فوفقًا لدول البريكس لا يجوز أن تبقى الولاياتالمتحدة هي القطب الواحد المهيمن على العالم بقدراته العسكرية والاقتصادية. واضح من توجهات الصين بانضمامها لمجموعة البريكس التي تضم كلًّا من "البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا" أنها تؤمن بالعالمية، أي بمجتمع عالمي متعدد الثقافات وبأبواب مفتوحة أمام كل الشعوب والأمم للتبادل الثقافي والتعاون في مختلف المجالات، ما جعل توجه البريكس لا ينسجم مع العولمة التي كان همّ الولاياتالمتحدةالأمريكية منها تحويل شعوب الأرض عن ثقافاتها وتبني الثقافة والفكر الأمريكيين، فدول البريكس مع التنوع والتعدد، كما أنها تناهض كل أشكال الهيمنة الثقافية ومحاولات إلغاء أو طمس ثقافات العالم، وهذا يعني أن دول البريكس لا تروج لفكرة عالم أحادي القطبية؛ لما في ذلك من مخاطر على الحضارة العالمية، وهي تناهض سياسات الولاياتالمتحدة في تحويل العالم إلى واحة أمريكية. ويبدو أن الصين هي أكثر دولة في العالم تخشاها الولاياتالمتحدةالأمريكية، فبكين تقوم ببناء البنية التحتية التي يحتاجها ربط القارات عن طريق القطار السريع جدًّا المسمى طريق الحرير الجديد، كما أنها تقوم باجتذاب الحلفاء والشركاء التجاريين الذين يريدون المشاركة في مشروعاتها التنموية، ما يجعل واشنطن قلقة من أن تشكل الصين غزوًا اقتصاديًّا لها.