لم تكن محاولة الانقلاب في تركيا الشهر الماضي هي الدافع الرئيسي لاستدارة السياسة الخارجية التركية نحو روسياوإيران، وإن كانت قد سارعت من وتيرتها ودفعتها قفزات إلى الأمام.. فمن كان يتخيل أن يتحول بوتين الذي وصفه أردوغان قبل عدة أشهر ب"الشرير المتجبر صديق السفاح" إلى "صديقي وصديق تركيا"، وذلك في تعبير عن التحول الكبير في السياسة الخارجية التركية في الشهريين الماضيين، والذي بدأ حتى قبل محاولة الانقلاب بتصريحات تكسر الجليد بينها وبين قوى دولية واقليمية تمهيداً لتفاهم سياسي واسع حول عدة ملفات على رأسها الأزمة السورية. زيارة أردوغان إلى روسيا ولقائه ببوتين جاءت بموازاة معارك حلب التي فرضت واقعاً ميدانياً جديداً مفاده انتهاء كل أمل لأنقرة في نفوذ في الشمال السوري عن طريق الجماعات المسلحة الموالية لها، وهذا الأمر لم يكن ناتج الأسابيع الأخيرة، بل يمكن القول أنه منذ التدخل الروسي في سوريا أواخر العام الماضي وتغير معادلة الميدان في الشمال السوري، وخاصة بعد غلق الحدود السورية-التركية والسيطرة عليها نيرانياً من جانب القوات الجوية الروسية والتراجع الذي لحق بالجماعات المسلحة بعد انقطاع خط إمدادها اللوجيستي الرئيسي، وهو ما لم يعوضه أي من محاولات تحييد الجسم الأعظم من هذه الجماعات عن الضربات الجوية الروسية والأميركية، وأخرها محاولة انفصال «جبهة النُصرة» عن تنظيم القاعدة، والتي لم تنطلي على القوى الدولية ولم تخرج التنظيم الإرهابي من دائرة الاستهداف خاصة وأنه مُجرم بمقتضى قرار لمجلس الأمن مثله مثل تنظيم «داعش». بالإضافة إلى هذه التغيرات الميدانية، فهناك بالنسبة لأنقرة تغيرات سياسية إقليمية ودولية وأيضاً داخلية فرضت عليها أن تبحث عن مخرج لأزمتها المتمثلة في سوء علاقاتها مع معظم دول المنطقة والعالم، وأزمة نشأة كيان كردي على حدودها ورعاية واشنطن وعواصم غربية له، وهو أيضاً ما تفاقم عقب محاولة الانقلاب الفاشلة وموقف العواصم الأوربية من الاجراءات التعسفية التركية، كذا تصاعد الخلاف بين أنقرةوواشنطن على خلفية الحادث نفسه وتصعيد كافة الخلافات بينهم على أسم فتح الله كولن الذي تتهمه الأولى بأنه وراء محاولة الانقلاب، التي يبدو بحسب تسريبات عربية وغربية أنه كان بمساعدة أو بالحد الأدنى موافقة قوى دولية وإقليمية بينها من هو مفترض أنه في تحالف مع تركيا حول عدد من الملفات والأزمات. غير أن التوجه التركي نحو روسياوإيران المتسارع بعد محاولة الانقلاب كان يُنظر إليه على أنه مناورة تركية بسبب تأزم موقفها مع الولاياتالمتحدة في سوريا، كذلك عدم نجاعة تحالفها مع السعودية وعدم تحقيقه أي شيء ملموس في الواقع السوري الذي بات أولوية تركية مباشرة لاعتبارات جيوسياسية وحيوية بسبب مسألة الكيان الكردي، فيما كان الأمر بالنسبة للرياض ينحصر في الاستقواء بتركيا كقوة "سُنية" ضد إيران، نظير توسيع هامش النفوذ التركي في المنطقة الذي أنكسر في 2013 بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، ولكن بعد تسارع وتيرته ومخرجات هذا التوجه التي فاقت حد المناورة –اتفاقيات اقتصادية بمليارات الدولارات وتعاون أمني- التي كانت كذلك بالفعل في تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير مطلع الشهر الجاري، والتي وعد فيها بأن تعطي بلاده حصة أكبر من المنطقة إلى روسيا تفوق ما كانت عليه أيام الاتحاد السوفيتي، وهو ما تُرجم عملياً بعد زيارة أردوغان الأخيرة إلى روسيا بأنه محاولة سعودية أخيرة لقطع الطريق على تركيا في توجهها إلى روسيا وإيضاح للأخيرة أن أوراق المنطقة في يد الرياض وعليها التوافق معها لا مع أنقرة إذا أرادت تسوية في سوريا. هنا يأتي الحديث عن التحالف بين السعودية وتركيا، الذي بدأ منذ بداية العام الماضي بعد وفاة الملك عبدالله الثاني، الذي انتهجت المملكة في عهده سياسات خارجية ضد المصلحة التركية أبرزها كان دعم السعودية لما حدث في مصر في 2013 والإطاحة بحكم الإخوان، وانتهاج سياسة إقليمية تجمع الرياض وأبو ظبي والقاهرة تهدف لتقويض الجماعة ونفوذها وكذلك دولة قطر الداعم الرئيسي لهم، وهو ما انتهى في بداية عهد الملك الحالي وتدخل الرياض في تحالف إقليمي مع تركياوقطر مفاعيله متنوعة ما بين سوريا وليبيا ومصر واليمن، والذي اتضح خلال عام وأكثر من عمر هذا التحالف أن تقويض مفاعيله في سوريا عبر التدخل الروسي قد أدى إلى انتهاء عملي للنفوذ التركي- السعودي هناك في إحراز أي مكسب ميداني يقوي موقفهم التفاوضي، كذا تطور المسألة الكردية ودعم الغرب لها إلى حد تهديد أنقرة وأمنها الداخلي والخارجي، خاصة بعد تحرير مدينة «منبج» الاستراتيجية من عناصر «داعش» على يد قوات «سوريا الديموقراطية» المدعومة أميركياً، وهو ما لا يندرج على أولوية المملكة في سوريا، وبالتالي مالت تركيا مع ميزان القوى الذي يميل لصالح كل من موسكووطهران في سوريا، من باب اللحاق بأي موطئ قدم في التسوية القادمة بعد انسداد أفق التعاطي التركي-الغربي حول سوريا والذي يسير عكس مصلحة أنقرة. وطبقاً للسابق فإن الاستدارة التركية التي بدأت بكسر الجليد قبل شهرين تطورت بدافع محاولة الانقلاب الفاشلة إلى خطوات ناجزة، فبعد زيارة أردوغان لروسيا وما نتج عنها وما سينتج عنها، لحق وزير الخارجية الإيراني هذه الزيارة بزيارة إلى تركيا نوقش خلالها مبادئ تفاهم تركي-إيراني حول سوريا، نقاطه الأساسية وحدة الأراضي السورية، ما يعني اتفاق كل من البلدين على عدم السماح بوجود كيان كردي قد يهدد أمنهم المشترك ويقوض مصلحة طهران في سوريا المتمثلة في عدم استبدال «داعش» و«النُصرة» وباقي الفصائل الإرهابية بقوات كردية مدعومة من واشنطن والغرب. ويمكن القول أن زيارة ظريف قد نتج عنها ما يشابه ما نتج عن زيارة أردوغان لروسيا، فبخلاف العلاقات الجيدة بين تركياوإيران والتي لم يتأثر حدها المعقول بما حدث في سوريا، ونجاح تحييد أنقرة من جانب إيران في ما يخص اليمن و«عاصفة الحزم» عن طريق العلاقات الاقتصادية بينهما وتطويرها، فأن هناك دواعي أهم بالنسبة لإيرانوتركيا كجارتين يضرهما خطر وجود كيان كردي مناوئ لكل منهما ويشعل الداخل في كل من البلدين الذي تُعد القومية الكردية مكوناً كبير من المجتمع التركي والإيراني. ولهذا كانت التصريحات التالية لكل من البلدين تجاه الأخر إيجابية كللت بإعلان زيارة وشيكة خلال أيام يقوم بها أردوغان لطهران، وذلك يعني أن الترتيب التركي الإيراني لتسوية في سوريا بمشاركة روسيا بالطبع قد بدأ، وأن السعودية تقف الأن تقريباً وحدها في مواجهة ترتيبات دولية تشمل أكثر من الدول السابقة إلى الصين والاتحاد الأوربي حول مستقبل سوريا، وهو على تباين رؤية كل من روسيا-إيرانوالولاياتالمتحدة –والغرب فإن كل منهما تخالف المصلحة السعودية وتقارب حال تنفيذها حد الهزيمة، وإن بمنظار تركي لكل من الرؤيتين ومقاربتهما فإن طهرانوموسكو أقرب في رؤيتهم للمصلحة التركية، وبالتالي فإن أنقرة بدأت في الابتعاد عن السعودية كون أن المحور الرئيسي في تحالفهم –سوريا- يقفان فيه حالياً على النقيض تقريباً، وهو ما يعني أن ما تبقى من محاور التحالف قد لا يتم التعامل معها بجدية وعلى رأس هذا مسألة المصالحة التركية مع مصر، والتي يبدو من تصريحات يلديريم قبل شهرين وبعد الانقلاب أن أنقرة تريد أن تجعلها أمر ثنائياً بدون تدخل المملكة، التي دأبت على اتخاذ دور الوساطة بين البلدين. كخلاصة عامة، فإن التحالف التركي-السعودي إن لم يكن قد انتهى فعلياً فيمكن القول أن مفاعليه الأساسية في سوريا قد انتهت، وأن أنقرة الآن بدأت في التعاطي مع طرفين المقابل للمصلحة السعودية هناك، ونعني بهما روسياوطهران، وهو ما يجعل ما تبقى من محاور التحالف التركي السعودي غير ذات أهمية وجدوى كونها أصلاً بُذلت طيلة العام ونيف الماضي من أجل تثمين وإبراز التفاهم فيما بينهما في سوريا. وهذا الأمر يشي باحتمالية عودة العلاقات التركية إلى سابق عهدها قبل 2011، ولكن بالطبع مع تغيرات فرضتها تفكك هذا التحالف بهذه الطريقة، أي أنه باختصار على المملكة أن تبحث عن بديل للحليف التركي السابق فيما يخص سوريا، والذي كان التحالف فيما بينهم العام الماضي قد أعاد النفوذ السعودي في سوريا إلى أوجه بعد انحدار طيلة عامي 2013 و2014، وهذا الأمر يبدو بعيداً لأن كل من الرؤية الأميركية والروسية للتسوية في سوريا تستبعد أي دور بناء للرياض فيها، وهو ما يضعنا أمام احتمالين؛ الأول أن تكتفي السعودية بهذا الحد في سوريا وتنسحب بما يحفظ لها ماء الوجه، أو تستمر في سياسة قلب الطاولة على الجميع والتي دأبت فيها منذ بداية العام الماضي ضد الجميع، وبالتالي لن يكون مستبعداً أن تسوء العلاقات السعودية التركية.