"الدرس الوحيد الذى نستفيده من التاريخ هو أن أحدا لم يتعلم من التاريخ".. قالها هيجل، بينما يظل السؤال قائما: ما الجدوى من الجهود المستمرة لمعرفة أحداث الماضي؟ إذ ما زال الباحثون يجمعون الوثائق والمخطوطات وشهادات المؤرخين عن الأعصر السابقة للوصول إلى صورة أقرب إلى الصحة لما كانت عليه الأيام الخوالي. اشتقت كلمة "التاريخ" فى اللغات الأوروبية من الأصل اليونانى (historia) ومعناها البحث والمشاهدة والتقصى من أجل الفهم. أما التاريخ باعتباره مفهوما اصطلاحيا فى الحضارة الإسلامية فيقول عنه ابن خلدون: "فى ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيه الأقوال وتضرب فيه الأمثال وتؤدى إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال… وفى باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها". يضع ابن خلدون يده فى ذلك النص على الجدوى الحقيقية من عملية التأريخ، فإن كان الظاهر محاولة سرد الوقائع كما كانت فإن فى باطنه البحث وراء العلل التى أدت إلى الوقائع المعينة أى – بلغتنا المعاصرة- "درس التاريخ". ولكن هل التاريخ بالفعل له درس يعلم؟ يرى بعض المفكرين أن للتاريخ دروسا نتعلمها كى لا نكرر الأخطاء فيما يعترض آخرون على (قوننة) التاريخ بزعم أنه لا يعيد نفسه أبدا، فالوقائع تتشكل بأسباب وعلل وشروط وموانع من المحال أو الصعب تكرارها بنفس الشكل، وأى تغير ولو طفيف يغير النتائج بشكل واضح. الفريق الأول –الذي نتوقف معه بمقالنا- يخرج من وقائع التاريخ قوانين وأشكال مفهومة، وفق مدارس تختلف وتتعدد، من أبرزها التفسير اللاهوتى للتاريخ، حيث يرى أنصار تلك المدرسة أن وقائع التاريخ تخضع للمشيئة الإلهية التى شكلتها، فلا مصادفة تقع، وإنما الكل سائر فى إطار خطة إلهية. قد يكون هذا ظاهرا فى نظرة بنى إسرائيل إلى تاريخهم الذى تنحصر فيه العناية الإلهية على (شعب الله المختار) ف"يهوه" يهتم ببنى إسرائيل وحدهم، وهو يعدهم بأرض الميعاد. ولكن بعيدا عن النصوص المقدسة تتجلى نظرية العناية الإلهية عند القديس أوغسطين الذى ذهب إلى أن الشر قد دخل العالم بمعصية آدم، وأن النفوس لها نزعتان: حب الذات وحب الله، وكذلك المجتمع حيث توجد مدينة أرضية أو مدينة الشيطان، مدينة سماوية أو مدينة الله.. وبنظرهم أن أهل كلا المدينتين كانوا مختلطين، حتى جاء إبراهيم، فأصبح بنوه أصحاب مدينة الله، وأهل باقى الحضارات أصحاب مدينة الشيطان، فهما يتقدمان معا حتى ظهور السيد المسيح، ولذا يجب أن تخضع الدولة للكنيسة حتى تتحقق مدينة الله. كان أوغسطين كتب كتابه عقب سقوط روما عام 410 ميلادية، ليرد على الذين قالوا بأن سقوطها كان سببه تخلى أهلها عن الديانة القديمة واعتناقهم المسيحية، مما سبب بلبلة للشعب المسيحى، فانبرى أوغسطين ليوضح علة سير التاريخ والوقائع فى هذا الإتجاه. وكذا رد أوغسطين على الذين يقولون بالتعاقب الدورى للتاريخ، مؤكدا أن ثمة أحداث فردية لا تتكرر، كصلب المسيح وكذا قيامته، وطوفان نوح، موضحا سير التاريخ فى خط مستقيم باتجاه غاية، وليس بحركة دائرية تتكرر. وبعد أوغسطين باثنى عشر قرنا جاء جاك بوسويه (1627-1704) ليجدد تلك الفكرة تارة أخرى، وليقول: "إذا كنا نؤمن بقدرة الله فى الطبيعة فأولى أن نؤمن بعنايته فى تاريخ الإنسان".. استخلص بوسويه مادته التاريخية من الكتاب المقدس لا من وثائق التاريخ، متتبعا إياه حتى ما يعرف بعصر النعمة.. واستمرت هذه النظرية حتى هدمها فولتير (1694-1778) مقدما رؤية تحليلية نقدية مفادها أن الله خلق العالم وخلق عقل الإنسان الذى ينظم شئونه، فالتاريخ يسير بمقتضى العقل البشرى لا بحسب خطة مسبقة. يعتبر عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406)- (732-808) أبرز روادها بل أهم مؤرخى العصر الوسيط على الرغم من الخلاف الشهير حول توصيف عمله فى مقدمته، أهو تأسيس لعلم الاجتماع؟ أم فلسفة التاريخ؟ أم فلسفة الحضارة؟.. ولكن ثمة اتفاق على أنه رائد فى مجاله (شامخا كعملاق بين قبيلة أقزام) كما قال عنه مؤرخ العلم الأشهر جورج سارتون وأنه (لم يستلهم أحدا من السابقين ولا يدانيه أحد من معاصريه) كما قال عنه أرنولد توينبى. يرى ابن خلدون أن ثمة ثلاثة أطوار تتعاقب على الحضارات: أولها طور البداوة: قبائل تعيش فى الصحارى بمجموعة أعراف تعبر عن حاجاتهم.. وثانيها طور التحضر: حيث تأسيس الدولة والاستقرار بالمدن.. وثالثها طور التدهور: حيث تتدهور الحضارة لانشغال أصحابها باللهو والترف.. فكل الحضارات تنمو وتزدهر ثم تتدهور فى حركة دائرية متعاقبة تبدأ بالبداوة وتنتهى بالتدهور. ويلي ابن خلدون فى نفس المدرسة التعاقبية فيلسوف التاريخ الايطالى فيكو (1668-1744)، فهو يقسم التاريخ لثلاثة أقسام أو دورات: دور الآلهة، حيث كانت الشعوب تعيش فى ظل حكومات دينية تستلهم قانونها مما تعتبره وحيا، ودور الأبطال، حيث يكون الحكم بيد أبطال أشداء محاربين فى ظل حكومات ارستقراطية، ودور البشر، حيث الاعتراف بسواسية البشر وظهور الأنظمة الديمقراطية. التعاقب الدورى عند فيكو لا يعنى الارتداد إلى نفس البداية ولا السير فى خط مستقيم، وإنما مسار لولبى صاعد كما لو كانت تدور حول جبل لتصل لقمته. ثمة العديد من نظريات الفلسفة التاريخية لدى المفكرين كنظرية التقدم الإنسانى ونظريات التفسير المادى ونظريات البعد البيولوجى كما لدى شبنجلر والتفسير البطولى للتاريخ كما لدى توماس كارليل، ولما كان من العسير عرض كل هذه النظريات، فلم يكد بد من اختيار إحداها للعرض والتمثيل في هذه المساحة، وهى نظرية أرنولد توينبى، المؤرخ الشهير المعروفة بنظرية التحدى والاستجابة challenge& response. درس توينبى (1889-1975) التاريخ البشرى دراسة موسعة عبر دراسة الحضارات كوحدة للتأريخ، واستنتج أن تاريخ كل أمة كان استجابة لتحدى الظروف التى وجدت فيها سواء كانت تحديات بيئية أو عدوان بشرى.. فالجماعات البشرية تقودها دائما جماعات من القادة وأصحاب الرأى، يقودونهم فى صراعهم ضد التحديات القائمة.. والجماعة ما دامت محتفظة بقدرتها على الاستجابة للتحديات فهى دائما فى صعود مستمر، ويتأتى انهيار الحضارات من فقدان الطاقة الإبداعية التى تتمثل فى القادة والنخب التي يقتدي بها الناس، فقصور الطاقة الإبداعية لدى النخب يعقبها عزوف العامة عن الاقتداء بهم، ويفقد المجتمع تماسكه فلا يستجيب للتحديات، فالانهيارات دائما داخلية قبل أن تكون خارجية. لا يزال الإنسان ينقب عن تاريخه يحاول فهمه وتفسيره ووضعه فى صيغة نظرية قانونية لمراكمة معارفة ولتجنب أخطائه السابقة وليتعلم من تجاربه.. ولكن هل تعلمنا درس التاريخ فعلا؟ أم كان الدرس الوحيد أننا لا نتعلم من التاريخ أبدا؟.