إجراء المقابلات الشخصية ل44 من المتقدمين لشغل وظائف مدير عام بالقاهرة (تفاصيل)    «تعليم كفر الشيخ»: غرفة العمليات لم تتلق أي شكاوى في أول امتحانات الفصل الدراسي الثاني    انخفاض في أسعار مواد البناء اليوم الأربعاء 8 مايو 2024 في جميع المصانع    متابعة لمشروعات حياة كريمة بقرى ديرمواس في المنيا    «المصرية للمعارض» تدعو الشركات للمشاركة في معرض طرابلس الدولي في الفترة من 15 - 21مايو    العثور على مقبرة جماعية جديدة بمجمع الشفاء.. وانتشال 49 شهيدًا    توخيل: من المستبعد التواجد في بايرن الموسم القادم.. وأحب الدوري الإنجليزي    غرامة مالية وترحيل.. ننشر موعد تطبيق عقوبة مخالفة تعليمات الحج 1445    تعرف على التحويلات المرورية لشارع ذاكر حسين بمدينة نصر    لا تكذب على برج العقرب.. 4 أبراج لديها موهبة قراءة أفكار الآخرين (تعرف عليهم)    فرقة الحرملك تحيي حفلًا على خشبة المسرح المكشوف بالأوبرا الجمعة    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    «صحة المنيا»: كشف وعلاج مجاني 10 آلاف مواطن في 8 قوافل طبية    هايد بارك العقارية للتطوير تطرح Lagoon Town على لاجون بمساحة 22 ألف متر مربع بمشروع Seashore رأس الحكمة    روسيا تؤكد ضرب مواقع عسكرية وشبكة الطاقة الأوكرانية "ردا" على هجمات كييف    تأجيل محاكمة متهم ب"أحداث وسط البلد" إلى 22 يونيو المقبل    خان شقيقه بمعاشرة زوجته ثم أنهى حياته بمساعدتها في كفر الشيخ    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    رئيس نادي خيتافي يكشف مصير ميسون جرينوود في الموسم المقبل    أخبار الأهلي : اليوم ..حفل تأبين العامري فاروق بالأهلي بحضور كبار مسؤولي الرياضة    أفضل دعاء للأبناء بالنجاح والتوفيق في الامتحانات.. رددها دائما    مسؤول إسرائيلي: لا نرى أي مؤشرات على تحقيق انفراج في محادثات الهدنة في غزة    صادرات السيارات بكوريا الجنوبية تقفز 10.3% خلال أبريل الماضي    مرصد الأزهر: استمرار تواجد 10 آلاف من مقاتلي داعش بين سوريا والعراق    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    بعد حلف اليمين الدستوري.. الصين تهنئ بوتين بتنصيبه رئيسا لروسيا للمرة الخامسة    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    تعذيب حتى الموت| قرار جديد بشأن المتهم بإنهاء حياة صغيرة السلام    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    وزير الخارجية الإيراني: طهران والقاهرة تتجهان نحو إعادة علاقاتهما الدبلوماسية إلي طبيعتها    علاء مبارك ينتقد مركز "تكوين الفكر العربي".. بين الهدف المعلن والتحفظ على العقيدة    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    أصالة تحذف صورها مع زوجها فائق حسن.. وتثير شكوك الانفصال    فصائل فلسطينية: سنتعامل مع إفرازات أي مخطط للوصاية على معبر رفح كما نتعامل مع الاحتلال    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    باتور... سيارة حصرية جديدة من بنتلي    البنك المركزي يصدر تعليمات منظمة للتعامل مع الشكاوي بالبنوك    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    "المدرج نضف".. ميدو يكشف كواليس عودة الجماهير ويوجه رسالة نارية    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    رئيس جامعة القاهرة ينعى الدكتور إبراهيم درويش أستاذ العلوم السياسية    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    اليوم، الحركة المدنية تناقش مخاوف تدشين اتحاد القبائل العربية    مجلس النواب يوافق على تشكيل المجلس القومي للطفولة والأمومة    المركزي للمحاسبات: ملتزمون بأقصى درجات المهنية في نظر الحساب الختامي الموازنة    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة في «ذي القعدة».. وفضل الأشهر الأحرم (فيديو)    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    لبلبة و سلمي الشماع أبرز الحضور في ختام مهرجان بردية للسينما    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكراه**الأفغاني .. أسطورة ثائر
نشر في البديل يوم 11 - 03 - 2016

ألح عليه والده في البقاء بجانبه حيث يقيم فأجابه "إنني كصقر محلق يرى فضاء هذا العالم الفسيح ضيقًا لطيرانه! وإني لأتعجب منكم، إذ تريدون أن تحبسوني في هذا القفص الصغير!
عاش جمال الدين الأفغاني لا يسع خيال الأرض ظله، يمر بين الأمكنة فتتقشر، ليغلب لونه على كل لون. فكرته كانت زلزال تتصدع تحت وطأتها كل فكرة، وكلمته قدسية متى ألقاها لقمت غيرها ولو كانت لأكابر العلماء أو أعاظم الملوك.
هاب الحكام سلطانه وهو الفرد الأحد، وتوسلوا به لتوحيد ممالكهم تارة، ولإصلاحها تارة أخرى، ولوأد الفتن بها طورا ثالثا. عظموه وأكرموه، ثم نفوه وطاردوه، منهم من خَلع بسلطانه، وقُتل باسمه، ليقتل نهاية على يد أحدهم.
لا أحد يجزم على الحقيقة بأي بلد كان مولده، كأنه أسطورة من أساطير اليونان، ابن من أبناء آلهتها القديمة. تجلى للشيعة بعمامة نجفية، وصوره العرب بعقالهم، وألفه الأتراك بطربوشهم، ونشأ بين الأفغان مرتديا عمامتهم!
عده البعض ماسونيا خائنا، إمام من أئمة التغريب، وصوره آخرون رافضيا تسلل لتخريب مذهب أهل السنة والجماعة، بينما اعتبره تلامذته ومريدوه "حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله.. وما أتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة، هو أقصى ما قدر لغير الأنبياء..".
في البدء..حرب وسياسة
فضت الألسنة خاتم اسمه لأول مرة لدى التحاقه بجيش أمير الأفغان دوست محمد خان، في فتح مدينة "هراة"، وبعد وفاة الأمير وتنازع أبنائه الحكم، انحاز جمال الدين لمحمد أعظم ضد أخيه شير علي، وتولى السيد قيادة جيوش محمد أعظم تسع سنوات، نقش خلالها اسمه بغبار المعارك في سماء بلاد الأفغان، وبفضل كفايته استتب الأمر لأميره، فاتخذ السيد وزيرا أول، لكن سرعان ما تجدد النزاع، واندلعت الحرب بين الإخوة الأعداء، وتدخل الإنجليز بأموالهم ونفوذهم لصالح شير علي الأخ الأصغر لمحمد أعظم. انتصر الأول وهرب الأخير، وبقى السيد في كابل، لا يمسه الأمير المنتصر، لمكانة قومه ونسبه الشريف، لكن هذا لم يمنع المكايدة، ففضل جمال الدين الرحيل، واختار الهند منفىً، ولدى وصوله (1869م) ضربت الحكومة الإنجليزية حصارا حوله، لتحول دون اتصاله مع علماء الهند وأهلها، لكن جمال الدين التقى بعدد من علماء ووجهاء الهند، وخطب في الجماهير لحثهم على مقاومة المحتل الإنجليزي، وبعد شهر قامت سلطات الاحتلال بترحيله عبر إحدى سفنها إلى السويس (1870م).
دوست محمد خان (1793 – 1863 م)
أقام السيد في زيارته الأولى لمصر أربعين يوما، التقى خلالها بعديد من الطلاب المصريين والشرقيين الذين يدرسون بالجامع الأزهر، وألحوا عليه في شرح بعض الكتب القديمة، فلبى رغبتهم، حتى انتقاله إلى الآستانة.
شهرة السيد هيأت له استقبالا مستحقا من كبار علماء السلطنة ورجالها، كما لاقى ترحيبا بالغا من الصدر الأعظم عالي باشا، والتقاه السلطان عبد العزيز محمود فأعجب بعلمه وحكمته.
ولم يلبث حتى تدافع على مجلسه كبار رجال الدولة وصفوة مثقفيها، ثم عينه السلطان عضوا بالمجلس الأعلى للمعارف، فنشط السيد في هذا الجانب، وقدم مقترحات لتعميم المعارف أثارت ضده شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي، وزاد سخط الأخير عليه بسبب الحظوة التي تمتع بها السيد بين النخبة العثمانية.
على إثر ذلك تربص فهمي أفندي بالسيد، ليطعن في دينه بعد كلمة ألقاها السيد عن الصناعات في دار الفنون بالآستانة. حرف الشيخ معنىً ورد بالكلمة، واستعمله في الحمل على السيد، فثارت ثائرة جمال الدين على هذا الافتراء، وطالب بمحاكمة شيخ الإسلام، لإثبات براءته من التهمة. حاول رجال السلطنة استرضائه وصرفه عن مطلبه هذا لكنه أبى، واشتد في طلب المحاكمة، لتتمدد المعركة في الصحف، فمنها من انتصر للسيد، ومنها من أعان شيخ الإسلام عليه، إلى أن صدر أمر الصدر الأعظم عالي باشا برحيل جمال الدين بضعة أشهر عن عاصمة الخلافة حتى تسكن الأزمة وتهدأ الخواطر.
السلطان عبد العزيز محمود (1830 – 1876)
في مصر.. حياة
انتقل السيد بعدها إلى مصر (1871م) في زيارة انتواها عابرة، لكن سعي رئيس الوزراء رياض باشا لإبقائه بالقاهرة أثناه عن عزمه، وكان أن خصص له الباشا بيتا لإقامته، وراتبا شهريا بلغ عشر جنيهات.
ثماني سنوات قضاها السيد بمصر، فأوحى إلى عقل البلاد الخامل المنطق والفسلفة وعلوم اللغة والدين والسياسة والثورة على الاستبداد والظلم، وانتشر رُسل معانيه بين الناس في مجالات: الأدب والصحافة والسياسة والدين، فقيَّد إليه قلوب طلاب العلم بقيود المعارف، وما عاد لغيره سلطان عليهم، يقول تلميذه أديب إسحق: كنا نجلس حوله نصف دائرة ينتظم في سمطها اللغوي والشاعر والمنطقي والطبيب والكيميائي والتاريخي والجغرافي والمهندس والطبيعي، فنتسابق إلى إلقاء أدق المسائل عليه، وبسط أعوص الأحاجي لديه، فيحل عقد إشكالها، فردا فردا، ويفتح طلاسمها ورموزها واحدا واحدا بلسان عربي مبين، لا يتلعثم ولا يتردد، بل يتدفق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلال، فيدهش السامعين، ويفحم السائلين، ويبكم المعترضين..".
أضحى السيد بعد أشهر قليلة من إقامته بمصر قبلة الملتمسين شفاعة العلم لتحرير العقول من الجهالة، واقتاد خيال تلامذته ومريديه الشباب إلى مجاهل المعاني وفنون الكتابة، فنظم على يديه في عقد من الزمن كتبة "لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصنعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته، أو قلد المتصلين به.."، بعد أن كان أرباب القلم بشهادة محمد عبده لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
وحث السيد تلامذته على نشر أماليه وشروحه وآرائه وأحاديثه إليهم بأسمائهم في الصحف والمجلات، كما ساعدهم على إصدار صحف خاصة لنشر الوعي بين الناس، فساهم في إصدار صحيفة "مصر" باسم أديب اسحق، وسعى لإسناد صحيفة "مرآة الشرق" لابراهيم اللقاني، وساعد سليم النقاش وأديب إسحاق، لإصدار صحيفة يومية بالإسكندرية " التجارة"، ونشر بهذه الصحف العديد من المقالات التي بلغت من التأثير حدا دفع "غلادستون" رئيس وزراء بريطانيا للرد على عدد منها، ولم يترك السيد فرصة لبث أفكاره الثورية بالمجتمع المصري إلا وانتهزها فانضم في البدء إلى المحفل الماسوني (الاسكتلندي) الذي رفع وقتها شعارات الثورة الفرنسية (الحرية-الإخاء-المساواة)، فتطلع السيد إليه كمتكأ لتحقيق أهدافه، لكن المحفل بمهادنته الاستعمار وغضه الطرف عن الأنظمة المستبدة خيب رجاءه، فخطب السيد غاضبا في اجتماع للمحفل حضره أمير بريطاني: كنت أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة وعجيبة، ولكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكنه أن يدخل أسطوانتي المحافل الماسونية..! إذا لم تدخل سياسة الكون، وفيها كل بناء حر، وإذا آلات البناء التي بيدها لم تستعمل لهدم القديم، ولتشييد معالم حرية صحيحة، وإخاء ومساواة، وتدك صروح الظلم والعتو والجور، فلا حملت يد الأحرار مطرقة وحجارة، ولا قامت بنايتهم زاوية قائمة؟!.. ماسونيتكم اليوم لا تتجاوز: كيس أعمال وقبول أخ، يتلى عليه من أساطير الأولين ما يمل ويخل في عقيدة الداخل… وهي رموز لا يفقه أكثرنا مغزاها، ولا المراد من وضعها!
إثر ذلك استقال السيد من المحفل، وتبعه ثلثمائة هم صفوة النخبة المصرية المنضوية تحت لواء الماسون، ليُنشأ بهم محفلا وطنيا، قسم أعضاءه إلى شُعب، وعهد لكل شُعبة وزارة من الوزارات، توجه لها النصح والإرشاد. وتابع السيد فأسس أول حزب (سري) بمصر والشرق كافة، الحزب الوطني الحر، ضم بين أعضائه زعماء الثورة العرابية، كأحمد عرابي ومحمود سامي البارودي وعبدالله النديم إضافة بالطبع إلى تلميذه الأبرز محمد عبده، هذه التحركات استهدفت في المقام الأول الخديو إسماعيل بعد أن مكنت سياساته للتدخل الأجنبي بالبلاد، فعمل السيد على خلعه، وتولية ابنه توفيق، الذي أظهر رغبةً في الإصلاح، وعزما على التصدي للتدخل الأجنبي بالبلاد، وتعاهد مع السيد بالمحفل الماسوني على اعتماد الحكم الشوري لدى توليته السلطة، ونُقل عنه مرارا قوله لجمال الدين: أنت موضع أملي في مصر أيها السيد، وغذى هذا الدافعَ في إزاحة إسماعيل عن كرسي الحكم، فحرض السيد محمد عبده على قتله، ووافق الأستاذ الإمام، لكن لم يكتب للأمر أن يكون، ثم سعى السيد مع مجموعة من النخبة المصرية لدى القنصل الفرنسي، بما للفرنسيين من نفوذ على الأستانة، لخلع الخديو.
الخديوي إسماعيل (1830 – 1895)
تكللت الجهود نهاية بخلع إسماعيل وتولية توفيق، لكن السلطة أملت على الأخير التحلل من وعوده لجمال الدين، وأضحى السيد عنده بنص بيان عُمم على الصحف "رئيس جمعية سرية من الشباب ذوي الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا" بعد أن كان موضع أمله!
أُلقي القبض على السيد، واُتخذت إجراءات نفيه سريعا، ليتراخى عصب الحيلة لدى القدر الذي احتال لإبقائه بمصر فترة هي الأطول بين التي قضاها ببلدان العالم المختلفة، ويرحل السيد عن مصر (1879) بعد أن أقام بها ثماني سنوات.
تأسيس العروة الوثقى
وصل السيد جمال الدين إلى منفاه الجديد: بومباي الهندية، وما إن استقر بها حتى استأنف نشاطه، فألَّف كتابه الأشهر "الرد على الدهريين" مستهدفا به جماعة من النخبة الهندية تطلعت للتنوير لكن على طريقة المستعمر الذي تحالفت معه، فنهض جمال الدين بكتابه لتخذيل الناس عنها، بعدها نقلت السلطات البريطانية السيد إلى مدينة كلكتا إثر قيام الثورة العرابية عام 1882، ووضعته تحت الإقامة الجبرية، ولم تسمح له بمغادرة الهند إلا بعد هزيمة الثورة، واحتلال الإنجليز لمصر.
فضل السيد لدى إطلاق سراحه الرحيل إلى فرنسا، وبعث لمحمد عبده المنفي إلى بلاد الشام، على أثر محاكمة زعامات الثورة العرابية، يستدعيه للحاق به إلى باريس. في هذه الأثناء دعته الحكومة الإنجليزية، للتباحث حول السودان وثورتها المهدية، فسافر إلى إنجلترا في زيارة سريعة. عرض الإنجليز تنصيبه سلطانا على السودان في مقابل إخماده للثورة، لكن السيد توصل معهم إلى اتفاق آخر يقضي برفع يدهم عن مصر مقابل وساطته، لتُفسد وفاة المهدي المفاجئة الاتفاق، فيتوجه السيد إلى فرنسا ( 1883م) ويؤسس مع محمد عبده جريدة العروة الوثقى لسان حال جمعية سرية رأسها السيد، واستهدفت دحر الاستعمار وإنهاض البلاد الإسلامية. ضمت الجمعية أعضاءً من معظم الأقطار الإسلامية، وكان من أبرز أعضائها المعروفين الأمير عبد القادر الجزائري.
بإمكانيات شديدة التواضع أصدر السيد الصحيفة الأسبوعية، وقد بلغ أثرها في النفوس حدا دفع الإنجليز إلى محاصرتها بجميع البلاد الإسلامية الخاضعة لسلطانهم، ففي الهند أقرت السلطات سنتين وغرامة مائة جنيه لمن يضبط بعدد من أعداد الجريدة، وفي مصر فُرضت غرامة على حائزها تراوحت بين خمس إلى خمس وعشرين جنيها، وحال هذا الحصار دون استمرار الجريدة، فتوقفت بعد صدور ثمانية عشر عددا.
بجانب ذلك نشر جمال الدين مقالات عديدة تتناول المسألة الشرقية وتهاجم السياسات الاستعمارية بالصحف الفرنسية، كما بث النشاط في نوادي الشرقيين المبعوثين للتعليم بفرنسا، واتصل بالنخبة، فاشتبك مع فيلسوف فرنسا الأشهر وقتها إرنست رينان في جدال حول الإسلام، ليلتقيه بعدها، وعن هذا اللقاء يقول رينان:"..وقد خيل إلي من حرية فكره، ونبالة شيمه، وصراحته، وأنا أتحدث إليه أنني أرى وجها لوجه أحد من عرفتهم من القدماء، وأنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد، أو أحدا من أولئك العظام الذين ظلوا يعملون خمسة قرون على تحرير الإنسانية من الإسار".
لم يطُل المُقام بالسيد في فرنسا، إذ غادرها بعد أشهر من توقف صدور العروة الوثقى، لينتقل إلى انجلترا ومنها إلى إيران (1886)بدعوة وتعهد من الشاه ناصر الدين فتح المجال أمام جمال الدين لإجراء كافة الإصلاحات التي يطمح إليها، وما إن وصل لأصفهان حتى عينه الشاه وزيرا للحرب، وبعد فترة قصيرة اجتذب مجلس السيد العديد من الأمراء والعلماء وكبار رجالات الدولة، فتفتحت نفوسهم لتعاليمه، مُكبرة غزارة علمه وقوة خطابه ورؤاه الثورية، وازداد نفوذه يوما بعد يوم، ووطأ هذا لحقد بعض رجالات الدولة ليتحالف مع قلق ناصر الدين من تسلط صورة السيد على عقول وأفئدة الخاصة والعامة، ويتغير الشاه تجاه السيد فيؤثر الأخير الرحيل.
الشاه ناصر الدين القاجاري (1831 – 1896)
الشاه والسيد
ومن أصفهان إلى موسكو (1887) ثم بطرسبورج حيث أقام السيد سنتين، اتصل فيها بالمجامع العلمية والسياسية، وفصّل المقالات بالصحف الروسية عن السياسة الدولية، وعن الأوضاع بتركيا وأفغانستان وانجلترا وايران، وتواصل مع الحركات الثورية المقاومة لاستبداد القيصر، ومنها جمعية سرية رأسها عم القيصر، وسعت للإفادة من خبرة السيد ومعارفه فكتب لها عدة رسائل. وبعد أن تنامت شهرة السيد بروسيا طلب القيصر لقاءه، لكن آراء جمال الدين عن الحكومة الشورية نفَّرت منه القيصر، فأوعز إلى رجال بلاطه أن يطلبوا من السيد مغادرة البلاد.
غادر جمال الدين بطرسبورج إلى ميونيخ بألمانيا، وعزم على الانتقال منها إلى فرنسا، لكن بدلا من ذلك توجه لإيران (1889)، بعد لقاء رتبه ساسة ألمان مع الشاه بناء على طلب الأخير وإصراره على لقاء السيد، رغم رفض الأخير مقابلته ببطرسبورج عندما حل بها ضيفا على القيصر. طلب الشاه من جمال الدين أن يعود معه إلى إيران فلم يوافق السيد إلا بعد أن تعهد ناصر الدين بتعيينه رئيسا للوزراء بجانب إنفاذه لكل سياساته الإصلاحية، ولدى وصول السيد طهران استقبله الشاه قائلا: ياسيدنا إنك قد أتيت أهلا، ونزلت سهلا، فقل الآن ما تريده، وما تطلب مني أن أفعله.
فأجابه جمال الدين: أريد شيئين: أذن صاغية تسمع ما أقوله، وإرادة قوية تأمر بإجراء ما سمعته.
وما كاد السيد يستقر بإيران حتى سن القانون الأساسي للمملكة الفارسية، لتكون ملكية شورية، عندئذ تقوضت حماسة الشاه للإصلاح، وتراجع عن وعوده وتعاهداته للسيد، فغضب جمال الدين، وقال للشاهنشاه: إن الفلاح والعامل والصانع في المملكة أنفع من عظمتك ومن أمرائك…، ولا شك يا عظمة الشاه أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش بدون أن يكون على رأسها ملك، لكن هل رأيت ملكا عاش دون أمة ورعية؟!
اضطربت العلاقة بين الشاه والسيد جمال الدين إثر ذلك، فانتوى السفر مجددا إلى أوروبا لكن الشاه رفض، وعزم على تحديد إقامته ومنعه من السفر، فاحتال السيد على ذلك بذهابه إلى "مقام عبد العظيم" وهو مقام حرم، من دخله كان آمنا، فمكث فيه سبعة أشهر، وتبعته مجموعات كبيرة من مريديه فكان يخطب فيهم، ليحثهم على تقويض سلطان الشاه الاستبدادي، كما حرر عددا من المقالات بالصحف يطعن فيها بسياسات الشاه، ويدعو للخروج عليه، وفي (مارس – إبريل 1891) تقرر نفي السيد جمال الدين عن البلاد، فتوجهت إلى بيته فرقة عسكرية من خمسمائة جندي، قبضت عليه، واقتادته على حمار وهو مريض، في شتاء قارص البرودة، حتى الحدود العراقية، وقد كان لنفي السيد بهذه الطريقة المهينة ردود فعل شعبية عنيفة، إذ أحاطت العامة بقصر الشاه تريد الفتك به، ولم تهدأ الأمور إلا بعد فترة طويلة، قضى فيها الشاه على 500 من كبار أتباع السيد ومريديه من الأمراء والعلماء.
ما إن استرد السيد صحته بعد هذه المحنة القاسية حتى كتب رسالة بعنوان "حجة الله البالغة وحملة القرآن"، وفيها حمل على الشاه وسياساته الممالأة للإنجليز، محرضا على التصدي لتوجهاته التي تخصم من استقلال البلاد وتذلها للاستعمار، ووجه الرسالة إلى علماء ومجتهدي الشيعة، وعلى رأسهم الحاج محمد حسن المجتهد الشيرازي، الذي أصدر – استجابة لرسالة السيد – فتواه الشهيرة بتحريم التمباك، وكان ناصر الدين قد منح امتيازه لشركة إنجليزية، فخسرت الشركة امتيازها بعد أن كسدت بضاعتها، ودفع الشاه إليها مبلغا كبيرا تعويضا عن الخسائر.
المجتهد محمد حسن الشيرازي (1815- 1895)
سارع السيد بعدها بالسفر إلى لندن قبل أن تُصدر السلطات العثمانية بالعراق قرارا بمنعه من السفر بعد رفضها انتقاله إلى الجزيرة العربية التي رأي فيها السيد مكانا مناسبا للشروع في مشروعه الإصلاحي بعيدا عن يد الاستعمار.
استمر هجوم السيد على ناصر الدين بالعاصمة البريطانية، ولم يعبأ باحتجاجات السفير الإيراني، الذي حاول أن يُثني السيد عن مهاجمة الشاه، راجيا منه أن يطلب ما يشاء مقابل ذلك، فكان جواب السيد: لا أتمنى إلا أن تزهق روح الشاه.. ويشق بطنه، ويوضع في القبور"، وهو ما لم يتأخر طويلا فبعد خمس سنوات من حادثة طرد جمال الدين، قُتل ناصر الدين، في ذات المكان الذي اقتيد منه جمال الدين للمنفى، على يد أحد مريدي السيد، ويدعى ميرزا رضا الكرماني، قتله الكرماني وهو يردد: خذها من يد جمال الدين، كما اُغتيل كل من تآمر على السيد واشترك في التدبير لطرده من إيران.
الآستانة.. حياة أخيرة
تلقى السيد جمال الدين وهو في إنجلترا دعوة من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للحضور إلى الآستانة، فاعتذر عنها، رغم إلحاح السفير العثماني بلندن عليه، لكن عبد الحميد أتبع المحاولة بأخرى، فأرسل للسيد ثانية يرغبه في الحضور، للعمل معه على مشروع "الجامعة الإسلامية" فتحمس السيد للمشروع، وقبل دعوة الخليفة العثماني.
لم يكن مشروع الجامعة الإسلامية هو السبب الوحيد الذي من أجله أصر عبد الحميد على إحضار السيد إلى الآستانة، فالخوف كان سببا ثانيا، وربما أولا، إذ علم رجال السلطنة عن اتصال السيد بقيادات جمعية "تركيا الفتاة" المناهضة لطغيان السلاطين العثمانيين، وتوجس عبد الحميد خيفة من هذه العلاقة، مستعيدا قصة الخديو إسماعيل، لذا فقد إرتأى – على الأغلب – استدعاء السيد إلى الآستانة ليكون تحت ناظريه.
خبث طوية عبد الحميد قابله صفاء نية السيد، فما ان استقر بمقامه الجديد، حتى شرع في إنفاذ ما اتفق عليه مع السلطان، فبعث الرسائل إلى كافة البلدان الإسلامية، يدعو فيها إلى الوحدة تحت راية الخلافة العثمانية لمدافعة الاستعمار ومشروعه ببلاد الإسلام، لكن شيئا فشيئا تكشف للسيد وهن إرادة عبد الحميد وعدم صدق عزمه على توحيد البلدان الإسلامية، وبالمقابل ازداد خوف السلطان العثماني وحذره من السيد، فاحتال لترويضه، وعندما تأبى السيد ازداد قلق عبد الحميد تغذيه الحوادث المتتابعة، فلدى طلب السلطان من السيد أن يُوقف هجومه على شاه إيران، بعد أن وسطه الأخير، كان رد جمال الدين الذي لم يكن يرى نفسه دون الملوك والسلاطين: "امتثالا لأمر خليفة العصر قد عفوت عن شاه العجم!"
الرد المغالي في الأنفة والكبرياء أثار عبد الحميد الذي علق على عبارة السيد قائلا: يحق لشاه العجم أن يخاف منك خوفا عظيما!، وشارك عبد الحميد الشاه هذا الخوف، وبدا ذلك جليا بعد زيارة قام بها الخديو عباس حلمي للأستانة، ليطلب من السلطان الإذن بلقاء السيد، فلم يؤذن له، ويصر عباس حلمي، فيرتب للأمر ويلتقي السيد. نُقل الخبر للسلطان عبر جواسيسه المخصصين لمراقبة السيد، فاستدعاه عبد الحميد وبادره لدى دخوله عليه: أتريدها (الخلافة) أن تكون عباسية؟ فرد السيد ساخرا: وهل هي خاتم في أصبعي أضعه أنى شئت؟!
حافظ السيد على سخريته من عبد الحميد وخلافته بعد أن تبين له انصراف السلطان عن مشروع الوحدة إلى الكيد والإيقاع بدعاة الديمقراطية والإصلاح من الأتراك الأحرار، ونُقلت عنه عبارات نقد قاسية للخليفة والخلافة، فسمعه البعض يردد قائلا: خلافة عظمى وإمامة كبرى!
لقد هزلت حتى بدا من هزالها*** كُلاها وحتى سامها كل مفلس
ودخل السيد على عبد الحميد مرة فقال له: أتيت لأستميح جلالتك أن تقيلني من بيعتي لك!، لأني رجعت عنها.. بايعتك بالخلافة، والخليفة لا يكون غير صادق الوعد!
في المقابل اجتهد عبد الحميد لاسترضاء السيد، فدفع إليه بواحدة من جواري القصر يريد تزويجه، لكن السيد رفض هديته، وأنعم السلطان العثماني عليه برتبة "قاضي عسكر" فلم حُملت "شارات الرتبة" إلى السيد ردها على رسول عبد الحميد قائلا: قل لمولاي السلطان إن جمال الدين يرى أن رتبة العلم أعلى الرتب، وإن جمال الدين لا يريد أن يكون كالبغل المزركش!
السلطان عبد الحميد الثاني
مقتل السيد.. "وكم كنت يوم الطفوف وحيدا"
حاول السيد أن يتملص من الطوق الذي فرضه عبد الحميد عليه، فاستأذن أكثر من مرة في السفر إلى أوروبا لكن السلطان رفض، وضاعف جواسيسه حول جمال الدين مخافة هروبه، ما أورث الأخير غضبا وحقدا، فازداد نقده للسلطان ولسياساته، وتناقلت الألسنة توصيفه لعبد الحميد بأنه "سُل في رئة الدولة"، وتحدث عن خلعه وخلع شاه إيران قائلا: إن خلعهما أهون من خلع نعلين!
أصبح العداء بين الرجلين صريحا بعد مقتل الشاهنشاه ناصر الدين على يد أحد مريدي السيد، فمنع عبد الحميد عن السيد راتبه، وازداد الأمر سوءا بمرض الأخير. خمسة أشهر والسيد يعاني آلاما مبرحة بأسنانه، قيل أنها ناجمة عن إصابته بالسرطان. عالجه في البدء طبيب عينه القصر السلطاني وكان جاسوسا عليه، لكن الآلام ازدادت، فاستأذن في السفر للعلاج بأوربا، فلم يؤذن له، وأوصى طبيب القصر بإجراء عملية جراحية لتفشل، وتتفاقم آلام جمال الدين، فطلب استشارة أطباء عسكريين ليرفض طلبه مجددا، واكتفى طبيب القصر بإجراء عملية جراحية ثانية دون فائدة، لتنتهي معاناة السيد في التاسع من مارس عام 1879، ويسلم روحه القلقة الثائرة أبدا.
لم يتخل الغموض عن سيرة السيد فصاحبه حتى القبر، فالرواية المعلنة من الدولة العلية تقول أن السيد مات بمرض السرطان، أما الأمير شكيب أرسلان تلميذ السيد، وأحد رفقة الكفاح قال أنه مات مسموما على يد رجال المابين الذين داهموا منزله بعد الوفاة مباشرة واستولوا على أوراقه وكتبه، ثم دفنوه في سرية تامة.
وما يُرجح تأكيد الأمير أرسلان، وفاة عبد الله النديم – الذي كان يقيم مع السيد بالآستانة – في ظل ملابسات شبيهة، إذ أصيب هو الآخر بمرض غريب شخصه أطباء القصر بالسل، فحاول السيد حينها نقله إلى المستشفى الألماني لكن رجال القصر رفضوا، لتداهم الوفاة النديم بعد أيام قليلة، ويداهم عسكر السلطان منزله فيستولوا على أوراقه وكتبه، وهو ما تكرر مع السيد بعد ذلك!
مضى السيد بسنوات عمره الست وخمسين خفيفا، مخلفا ورائه أفكار ومعان أثقلت النفوس النبيلة في أقطار الشرق الكبرى كافة: تركيا، إيران، أفغانستان، الهند، مصر، في كل هذه البلدان وغيرها بذر جمال الدين – عبر تلامذته ومريديه – الثورة على الاستبداد والاستعمار، ومنح شعوبها حنين البذرة للثمرة، فتضاعفت حصص نشاطهم لحصادها، واختص السيد مصر، أو اختصه الله بمصر، لتتمدد روحه فيها، ولم يحجب عن أهلها شيئا من خزائن روحه السامية، فكان الأديب والصحفي والسياسي وعالم الدين..، وكانت الثورة العرابية، صنعهم وصنعها بيديه. التمعت الحياة في مصر بالعافية بعد أن مسها جلال وجوده، لكن الاستعمار هوى كصاعقة ضربت عصب الروح لدى أُناسها فأذهلتهم عن درب السيد، وألقت بهم إلى أرض التيه!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.