مع بداية كل عام جديد تشرع الدوائر الأمنية والاستراتيجية في إسرائيل في رصد المتغيرات والتحديات الأمنية والعسكرية والخروج بنتائج وتوصيات وتقديرات للمواقف المختلفة بُنيت على دراسات وأبحاث ومداخلات شارك فيها الساسة والقادة الأمنيين والعسكريين الإسرائيليين الغرض منها تقييم الأداء الأمني والعسكري لتل أبيب ووضع استراتيجيات أو تعديل استراتيجيات السنوات القادمة. ويختص بهذه التقديرات جهات عدة في إسرائيل، سواء كانت حكومية رسمية كتقديرات وزارات الدفاع، الأمن والشئون الاستراتيجية، بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية المتعددة كالموساد، "الشاباك"، و"الشيت بيت". لكن على أهمية هذه الوزارات والأجهزة الأمنية فإن التقديرات الاستراتيجية العامة تصدر من المراكز البحثية والاستراتيجية الخاصة المستقلة بعيداً عن الأجهزة التنفيذية لضمان الحيادية والشفافية، ليتطور الأمر أن تختص هذه المراكز بوضع الخطوط العامة للتقديرات الاستراتيجية لإسرائيل على أن يكون تفصيلها وتنفيذها من اختصاص الحكومة وأجهزتها المختلفة، وهذا بالطبع يجعل المؤتمرات السنوية التي تعقدها هذه المراكز من أهم الفعاليات التي تجري في الكيان الصهيوني، حيث مشاركة المسئولين الإسرائيليين وعلى رأسهم الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء المعنيين فيها، كذلك حضور ومشاركة مسئولين أجانب من دول حليفة لإسرائيل، وذلك لمناقشة الاستراتيجية الأمنية لتل أبيب وتقييم السابق واستشراف القادم فيما يخص التحديات الأمنية وكيفية مواجهتها. تغيير قواعد اللعبة ومن أهم هذه المراكز التي تعنى بالشئون الأمنية والاستراتيجية في إسرائيل: مركز هرتسليا متعدد المجالات، معهد الاستراتيجية الصهيونية، ومعهد أبحاث الأمن القومي الذي يعرف اختصاراً ب (آي إن إس إس)، والأخير عقد مؤتمره العام قبل أيام بمشاركة القادة السياسيين والأمنيين في إسرائيل تحت عنوان "تغيير قواعد اللعبة"، متطرق في فعالياته إلى التحديات الرئيسية وأولويات العمل الأمني بالنسبة للكيان الصهيوني في عامي 2015 و2016، والذي على عكس عنوانه لم يطرح تحديات أو أخطار جديدة استراتيجية جديدة، بل أكد على بديهيات منها مثلاً أن حزب الله هو التهديد العسكري الأول للكيان الصهيوني، وإن عكست تفاصيل توصياته تطوراً في الرؤية مرتبطة بتطورات حدثت العام الماضي خاصة بالتحديات التي رُصدت في السابق على مدار السنوات الخمس الماضية، والتي في القلب منها الأزمة السورية وتداعياتها، وكذلك الملف النووي الإيراني وتداعيات تنفيذ الاتفاق النووي، بالإضافة للأخطار الداخلية والتي تجلت هذا العام في عمليات الطعن والدهس من جانب فلسطينيّ الداخل كرد فعل غير متوقع وعامل ردع مقلق وغير متوقع للممارسات العدائية لتل أبيب تجاه الفلسطينيين. ووجه المعهد في تقديره الاستراتيجي السنوي المرفوع إلى الحكومة الإسرائيلية خمسة توصيات رئيسية على ضوء المستجدات التي شهدتها الساحة الدولية والإقليمية المتقاطعة مع مصالح تل أبيب، والتي في مجملها تشكل بوصلة بناء القيادة السياسية والأمنية هناك لاستراتيجية في مدى السنوات الخمس المقبلة، والتي بحسب ما جاء في التقدير "ستعج بالتطورات الدراماتيكية المنبثقة من حالة اللايقين التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط خاصة والعالم عامة"، وبالطبع أتت الأزمة السورية ومستقبل سوريا في قلب هذه التوصيات، لتقاطعها مع كافة المحاور التي تتعلق بالتحديات الأمنية والاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة. الخوف من تعافي سوريا اللافت أن أولى هذه التوصيات تتعلق بإمكانية استعادة سوريا لقوتها كدولة متعافية بعد سنوات خمس من حرب وأزمة جعلت المعهد ذاته يحصر توصياته بشأن سوريا منذ أربعة سنوات على أساس انهيار الدولة السورية، ففي يوليو2012، حددت دراسة موجهة إلى صناع القرار في إسرائيل أعدها باحثون في المعهد خمس سيناريوهات للأزمة السورية هي كالتالي: أ-سقوط نظام الأسد والنظام الحكومي وتتفكك بنية الدولة لكانتونات مستقلة، وحرب أهلية لا هوادة فيها بين الأثنيات وتطهير عرقي ونزوح السكان لمناطق تجمعاتهم العرقية.ب-سيطرة جزئية لنظام بشار على محور طولي يشمل حلب ودمشق وحمص وكذلك القطاع الساحلي وفقدان السيطرة على باقي سوريا التي حينها ستظل تعمل كدولة بشكل جزئي. ج-بروز نظام دولة مختلفة داخل سوريا. حكومة مختلفة تقودها قوى المعارضة متحدة قي عملها لتحقيق الاستقرار وخلق توازن بين مختلف المجموعات الأثنية. د- الفوضى وسقوط نظام الأسد وعدم وجود حكومة مركزية فاعلة لتصبح سوريا ساحة معركة لقوى التطرف بدعم من الأطراف الفاعلة في الخارج الذين يتنافسون مع بعضهم البعض:إيران والسعودية ودول الخليج وتركيا والأكراد وروسيا والولايات المتحدة ..إلخ وتصير سوريا مركزاً لجذب القوى المتطرفة من الخارج وتتطور الحرب بالوكالة.ه -تحول دراماتيكي في مسار الأحداث يعقبه عمليه عسكرية خارجية تطيح بالأسد وتبدأ عملية طويلة بعدها لإنشاء نظام جديد وعملية مصالحة وإصلاحات ديمقراطية. وبعد مرور أربعة أعوام وعدم تحقق أي من السيناريوهات السابقة، بل مزيج لا يشمل عملياً سقوط النظام أو استعادته السيطرة على كامل الأراضي السورية، بالإضافة لمتغير رئيسي في مسار الأزمة أرجئ إمكانية تنفذ إسرائيل بالضلوع بدور رئيسي في رسم مستقبل سوريا خلال العاميين الماضيين، فخطوات داعش الواسعة في سوريا أو العراق الخارجة عن تصور الجميع بما فيها الدول التي دعمتها أخذت مسار الأحداث السورية إلى منحى يبتعد عن كافة السيناريوهات التي توقعتها تل أبيب، وذلك مع حساب أن السيناريوهات سالفة الذكر كانت تضع إسرائيل أمام تحديات استراتيجية وتهديدات أمنية ولكن مع منطلق إمكانية التعامل معها وتوظيفها أو مواجهتها كالنزوح الجماعي للسوريين لهضبة الجولان وتحولها لمنطقة تحتوي عناصر مناوئه لإسرائيل، وتسرب أسلحة إستراتيجية أو كيميائية إلى حزب الله أو جهات أخرى، وتحويل الانتباه عن إيران للاستمرار في برنامجها النووي، ولكن في نفس الوقت يتاح لإسرائيل فرص ممكن الاستفادة منها لإضعاف المحور الراديكالي (محور المقاومة)، فبتغيير التوازنات في لبنان وإمكانية دفع القوى اللبنانية إلى المطالبة من جديد بنزع وتفكيك قدرات حزب الله الإستراتيجية بتأييد ودفع من قبل واشنطن وتل أبيب والمجتمع الدولي. الارتباك واللجوء لمبدأ الحد الأدنى انطلاقاً من عدم حسم توقعات سيناريوهات الأزمة السورية لما طرأ عليها من تغيرات أهمها عدم سقوط النظام وسيطرة داعش الميدانية وتمددها على حساب إخفاق المجموعات المسلحة الأخرى سواء في مواجهتها بعضها البعض أو مواجهتها مع القوات السورية، تجددت المخاوف الإسرائيلية من تعقد المشهد في سوريا،وعلى مستوى الباحثين والمحللين المعنيين بمستقبل المنطقة واستراتيجيات التعامل حيالها في إسرائيل، برزت آراء مفادها أن مساعي إسرائيل خلال الأعوام الثلاثة الماضية لخلق محيط استراتيجي لها في العمق السوري بدعم وتوطيد علاقتها مع المعارضة المسلحة فشلت، وأنه حالياً تواجه إسرائيل معضلة كيفية التعامل مع الوضع الراهن وتجنيبها خسائر التمدد في اتجاه فلسطينالمحتلة. وبناء على السابق أتت تقديرات وتوصيات هذا العام أن الأهم بالنسبة لإسرائيل وبالحد الأدنى هو ضمان إضعاف ما تسميه الأدبيات الأمنية الإسرائيلية ب"المحور الراديكالي" وتعني به محور المقاومة بسوريا في المستقبل، وإبعاد الأخيرة كدولة وقدرة عسكرية قدر المستطاع عن هضبة الجولان، وذلك عن طريق التعاون مع التنظيمات التي بحسب المعهد هي "تنظيمات سُنية معتدلة تدعمها وترعاها دول مثل السعودية وقطر وتركيا والأردن، مع الأخذ في الاعتبار مسلك هذه الدول في ضمان توجيه دعمها للمسلحين المعتدلين وليس المتطرفين سواء المنضويين فكرياً وتنظيمياً تحت "داعش" أو "القاعدة" أو من سينضم لهم بحكم الواقع وتطورات الأحداث مستقبلا. وما يعني ذلك من تفضيل أن تضع تل أبيب خطة أمنية شاملة لجبهة الجولان تتضمن في جوهرها هذه الإشكاليات بالإضافة إلى محاولة إجهاض تمدد محور المقاومة إلى هذه الجبهة، سواء بالاستناد إلى واقع الجولان المعهود منذ 1974حتى 2010 والذي تكفله الهيئات الأممية واتفاق فصل القوات، أو بالواقع الجديد القائم على توازنات الردع والذي ستحققه إسرائيل بالتعاون مع الأطراف سابقة الذكر. بشكل عملي وقبل توجيه هذه التوصيات والتقديرات الاستراتيجية، بدأت تل أبيب في سلوك الاتجاه السابق ذكره قبل ما يربو عن ثلاثة أعوام وبشكل علني وخاصة فيما يتعلق بهضبة الجولان، من دعم للمجموعات الإرهابية بما فيها "جبهة النُصرة" التي تشكل في واقع ميداني حزام أمني للقوات الإسرائيلية في الجولان، وأن التوصيات الأخيرة لا يمكن اعتبارها سوى حسم واتفاق كل الأطراف السياسية والأمنية داخل إسرائيل على هذا الاختيار شبه الحتمي بالنسبة لهم، بعدما كان هذا الاختيار يخضع لمآلات تطور الأوضاع وانتظار ما سيكون من تفاعل للأزمة السورية بمعزل عن موقف إسرائيل منها الذي كان في بدايته يفضل عدم التدخل المباشر ليكون مسار الأحداث "عفوي" ككل مسارات "الربيع العربي" وقتها. فيأتي الحسم الإسرائيلي المعلن هذه الأيام كتصديقاً على سياسة عملية مستمرة طيلة الأعوام الثلاث الماضية، ولكن توقيت الإعلان عنه له دلالات هامة تشير إلى أنه مع أي تطور ميداني على الساحة السورية لا تجد إسرائيل غضاضة من بذل مرونة أكثر في تدوير زوايا استراتيجياتها سواء في إعادة ترتيب الأولويات أو قرار التدخل الغير مباشر عن طريق دعم المسلحين المتمركزين على حدودها مع سوريا التي في رأي قادة تل أبيب الأن على وشك أن تستعيد عافيتها كدولة وكقوة عسكرية تهدد إسرائيل أو بالحد الأدنى تعود لمربع الردع الاستراتيجي المتبادل.