(1) في اللحظة التي أطل علينا فيها اللواء عبد العاطي عبر مؤتمر صحفي بصحبة رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ليعلن عن اختراعه جهازا لعلاج مرضي الإيدز وفيروس سي، عرفنا أن فيروس الإيدز يمكن "تصبيعه" في الكفتة ليتغذى عليها المريض، وأن علاجه بعدها ميسور على يد اللواء المكلف واختراع الهيئة الهندسية، وفي هذه اللحظة أيضا تأكدنا أن قادتنا العسكريين بلا شرف. احتجاز نشطاء الثورة وتعذيبهم في المتحف المصري، وبعدها بمباني مجلس الشعب، قتل المتظاهرين، وكشوف العذرية، على يد ضباط الجيش ومخابراته العسكرية، كلها حوادث قد تجد لها مبررا في حالة الاضطراب والخوف والترقب التي غلفت المجتمع، واستبدت بمؤسسات الدولة أثناء الموجة الأولى للثورة. نعم ربما يرى البعض في ذلك مبررا وإن كان واهيا، لكنه على أية حال مبرر يقنع به القانعون بكل مبرر، أما قصة "جهاز الكفتة" فقد كانت عملية نصب مكتملة الأركان، لا تتيح تفاصيلها لأحد تفسيرا آخر يحفظ على أصحابها شرفهم العسكري! في الزمن الجميل "الملكي" بدرب طياب الشهير، كان لكل وظيفة مرسومة حدودها بدقة لا يتجاوزها كائنا مَن كان مِن سكان الدرب.. "البدرونة" أو العايقة" هي الحاكمة لبيت الدعارة، والمسؤولة عن إدارته، لا راد لكلمتها، ولا معقب على قراراتها، و"البدرونة" كلمة إيطالية تعني سيدة صاحبة رئاسة، وكانت تُطلق على القوادة الأجنبية، أما مقابلها الوطني فهو "العايقة"، تنظم العمل، وتدفع الأجور، وتوجه البلطجية أو " البرمجية"، وتتعامل مع العملاء. (2) القاضي ناجي شحاتة في حوار لجريدة الوطن يصف 25 يناير ب 25 خساير، وأنها ثورة بنت ستين كلب، موجها الإهانات لمحكمة النقض، مبديا رأيا منحازا بخصوص قضايا نظرها ومازال ينظرها. نَشْر الحوار لم يمنع رئيس دائرة الجنايات من الاستمرار في عمله القضائي كأن شيئا لم يكن. الواقعة سبقتها وقائع: قضية "التمويل الأجنبي"، قضايا الفساد التي اقترنت بوزير العدل أحمد الزند قبل التعيين وبعده، القبض على صلاح دياب، ليتم الإفراج عنه وعن ابنه بعد 24 ساعة من قرار النيابة بتجديد حبسه 15 يوما، لتتبخر قضية الفساد الكبرى، المُعلن عنها وقتها، كأن لم تكن! هذه الحوادث وغيرها تجعل أي حديث عن استقلال أو هيبة أو شرف القضاء هو أيضا كأن لم يكن. شرعية البغاء في درب طياب كان يشرف عليها رجال "الحوض المرصود" بمنح التراخيص للعاهرات. الترخيص الممنوح من قبلهم كان يُعفي القوادين والبدرونات أو العايقات وعاهراتهم من الملاحقة، وتقاضى رجال "الحوض المرصود" مرتبات كبيرة من الدولة، بأرقام ذلك العصر، للعب هذا الدور. (3) في تقريره السنوي ل2014 وثَّق مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف 272 حالة وفاة نتيجة لتعذيب داخل السجون وأقسام الشرطة ومقرات أمن الدولة، إضافة إلى 289 حالة تعذيب و189 حالة اختفاء قسري! وفي تقريره لشهر أكتوبر الماضي سجل المركز 9 حالات وفاة في أماكن الاحتجاز، و27 حالة تصفية، و58 حالة تعذيب، و4 حالات تعذيب جماعي في سجون وادي النطرون، والأبعادية، وأسيوط، ومنيا القمح. أما تقرير شهر نوفمبر فسجل 13 حالة وفاة في أماكن الاحتجاز، منهم 9 تحت التعذيب، و3 إهمال طبي، وحالة انتحار، كما رصد التقرير 63 حالة قتل خارج إطار القانون، و10 حالات قتل خطأ، و42 حالة تعذيب، و13 حالة تعذيب جماعي، و12 حالة سوء معاملة، و75 حالة إهمال طبي، و40 حالة إخفاء قسري. وفي تقريره عن الشهر الماضي رصد "النديم" 11 حالة وفاة في أماكن الاحتجاز، بينهم 3 جراء التعذيب، و7 حالات نتيجة الإهمال الطبي وحالة انتحار واحدة، و3 نتيجة طلق ناري في مشاجرة مع رجل شرطة، وحالة طلق ناري عن طريق الخطأ (طفل)، و10 حالات تصفية جسدية، وحالة ضرب أفضي إلى موت. هذا بجانب 65 حالة تعذيب فردية، و6حالات تعذيب جماعي (سجن العقرب)، و58 حالة اختفاء قسري. لا يمر شهر دون رصد عشرات من حالات القتل والتعذيب والاختفاء القسري، والقانون هنا أشبه بواقٍ ذكري يمنع أي توابع لهذه العمليات، فلا مساءلة أو محاسبة، وإن ألح الإعلام على إحدى الوقائع اضطر ذلك المتحدث الإعلامي باسم الشرطة أن يخصص 5 دقائق من وقته ليعلن عن كون الحادثة فردية، وأن تحقيقات ستجرى بخصوصها، وكفى الله رجال الشرطة شر القانون وعقوباته! "البرمجي" في درب طياب هو المسؤول عن حماية بيوت الدعارة.. كانت تستأجره "البدرونة" أو "العايقة" للحماية ولحفظ النظام داخل بيت الدعارة، وله ول"العايقة" النصيب الأكبر من الحصيلة، أما "المقطورة" أو العاهرة فلم تتحصل إلا على الفتات، ومع ذلك لم تكن لتجرؤ على مخالفة "البرمجي" أو سيدته "العايقة"، فأي تمرد كان يواجه بالتعذيب أو الضرب حتى الموت أو التشويه بمواد كاوية. (4) ولاد عباس كامل "صَبَّعوا" كفتة الوهم للناس، ونفخوا في الرجل الصغير من برامجهم وصحفهم ليصبح رجل دولة فرئيسا لها، والدولة صارت بمؤسساتها الغارقة في الفساد حتى الغيبوبة، مقدسة، قضاؤها شامخ، وجيشها عظيم، وشرطتها في خدمة الشعب! لا تكتمل قصة مجتمع درب طياب دون ذكر دور "السَّحَاب" أو السَّحَابة"، وهو أو هي من يقوم باستدراج الفتيات إلى "العايقة"، لتتولى الأخيرة تلقينها وإعدادها لمهنتها الجديدة. امتهن "السحَّاب" بيع الوهم للفتيات الصغيرات، مستغلا فقرهن وجهلهن وقلة حيلتهن، وولاؤه كان لمن يدفع أكثر! (5) انعدام الوعي والجهل وقلة الحيلة ثبتوا الناس على أوتاد الوهم الذي صنعه نظام العسكر، وروجه إعلام أجهزته الأمنية، وصادقت عليه نخب منزوعة الشرف، مهيضة الجناح. مساحة اليأس تتسع يوما بعد يوم، ف"الطبيب" بدلا من أن يقدم تشخيصا صحيحا لأمراضهم وعلاجا لها، يداويهم بالتي كانت هي الداء، ولا يمل من تذكيرهم أنهم أحسن حالا من الأموات! منظومة درب طياب تمركزت حول "المقطورة"، فكان عليها أن تطعم الجميع من ثدييها، وغير مسموح لها بالاعتراض أو التمرد رغم حالها البائس، فبالكاد كانت تتحصل على ما يسد الرمق، وإن علا صوتها تطالب بالمزيد انتهبت جسدها عصا " البرمجي" الغليظة، وطبقا لمحاضر الشرطة، في هذا العصر، فإن من حثها الغضب أو دفعتها الرغبة في تغيير حياتها؛ للتمرد كانت تلاقي مصير يتنوع بين الضرب حتى الموت أو الإخفاء أو التشويه بالمواد الكاوية. (6) درب طياب، كلوت بك، وش البركة، الوسعة، عطفة جندف، الحوض المرصود، درب المصطفي، الوعد، الجنينة، الخبيزة.. كلها فصول لقصة واحدة، تفرق أبطالها الأوائل بعد إلغاء الدعارة سنة 1949، بأحياء وشوارع المحروسة. لم تعد تجمعهم أحياء وشوارع بعينها، وتوزعوا على المدن والقرى. تبدلت أشكالهم، واختلفت أزيائهم، وتغيرت مسميات مهنهم، كما تكاثرت أعدادهم، وأضحى الدرب وطنا بأكمله، وطن بلا شرف! [email protected]