لم تتم علمية الانتقال من الحكومات العسكرية إلى نظم الحكم الديمقراطي بشكل يسير، وتعددت مسارات هذا الانتقال. فهناك نظم انقسمت فيها الجيوش حول مسألة الديمقراطية والحكم المدني بين فريق يريد الإبقاء على الحكم العسكري وآخر يود إعادة السلطة للمدنيين مع ضمان مصالح المؤسسة كما الحالة البرازيلية، وهناك حالات اضطر فيها العسكريون إلى ترك السلطة بعد فشلهم وهزيمتهم العسكرية كما حدث في اليونان والأرجنتين. وهناك نظم أخرى لم يخرج منها العسكريون من السلطة إلا في أعقاب تظاهرات شعبية قوية ونضال سياسي ممتد، كما كوريا الجنوبية واندونيسيا. وفي جميع هذه الحالات خرج العسكريون من السلطة وظل نفوذهم السياسي ليتم على مدى زمني ممتد تقليص هذا الدور. لكن وفي كل هذه الحالات لم يتم حسم دور الجيوش في السياسة بالضربة القاضية، فلا الجيوش بقيت في السلطة للأبد، ولا المدنيون استطاعوا إخراج العسكريين بشكل سريع وحاسم. فالجيوش ل ايمكن لها الاستمرار في الحكم اعتمادا على القبضة الأمنية لفترات زمنية طويلة؛ لأن الشعوب لا تستلم مهما تصاعدت حدة القمع، كما أنه ليس من الممكن أن يتغاضى المجتمع الدولي عن انتهاكات حقوق الإنسان لمدة طويلة. هذا فضلا عن الصراعات الداخلية بين العسكريين أنفسهم وانعكاس هذا السلبي على قدرات المؤسسة وجاهزيتها لمهامها الأساسية.. بجانب أن أي نظام قمعي عادة ما يعرض أمن المنطقة التي ينتمي إليها لعدم الاستقرار إذ تظهر حركات مسلحة تلجأ إلى العنف ضد النظام، وضد الدول الداعمة له إقليميا ودوليا.. مارست بعض الحركات اليسارية هذا الدور في بعض دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا، كما تمارسه الآن بعض الحركات التي تُنسب إلى الإسلام.. كما أن نجاح العسكريين أو فشلهم في الجانب الاقتصادي يدفعهم أيضا إلى الخروج من السياسة، ففي حالة النجاح تظهر قوى اجتماعية واقتصادية جديدة تضغط لأجل إعادة توزيع ثمار التنمية الاقتصادية بشكل أكثر إنصافا، ولهذا تظهر دعوات الانفتاح السياسي والمنافسة السياسية عبر انتخابات حرة.. وفي حالة الفشل يتصاعد الضغط لإخراجهم بسبب عدم قدرتهم على إدارة البلاد.. ولهذا لم تستمر أي حكومات عسكرية (ولا سيما البوليسية منها) إلا لسنوات قليلة لتنتهي إما بانقلاب آخر يسلم السلطة أو يستمر هو الآخر لفترة قصيرة أخرى، أو بحرب أهلية، أو بانفتاح ديمقراطي.. ومن جهة أخرى لم تستطع القوى الديمقراطية إخراج العسكريين من السياسة بشكل حاسم وسريع لسبب أساسي هو أنه لا يمكن منازلة الجيوش عسكريا، وعندما حدث هذا في الدول ذات الجيوش القوية انتهى الأمر إلى عمليات إبادة للمعارضين، كما فعلت عدة حكومات في الشرق الأوسط عدة مرات كان آخرها في الجزائر.. وفي كل هذه الحالات بقيت الدولة قائمة لكنها ظلت ضعيفة ومنهكة. وفي دول أخرى انقسمت الجيوش واندلعت الحروب الأهلية التي تنتهي عادة بإضعاف كل الأطراف وربما انقسام الدولة ذاتها. أما الطريق الأكثر شيوعا فهو النضال السلمي القوي لإخراج العسكريين من السلطة وحصر اهتمامهم في مهامهم الأصلية، ثم معالجة قضايا العلاقات المدنية العسكرية على مدى زمني ممتد بما يؤدي في النهاية إلى تقوية الدولة والديمقراطية والجيش معا. حدث هذا في إسبانيا وكوريا الجنوبية والأرجنتين واندونيسيا والبرازيل وتشيلي وغيرها.. ولم يتم في هذه الحالات التنازل عن حقوق الضحايا من قتلى ومعتقلين ومعذبين، فقد فتحت هذه القضايا أيضا ولو بعد حين، إلا أنه كان من الأهمية أيضا طمأنة الغالبية العظمى من المنتسبين للمؤسسات العسكرية، وعدم ملاحقتهم قضائيا لكسب تأييدهم للحكم المدني والاهتمام أكثر بوضع كافة الضمانات (الدستورية والقانونية والمؤسسية والثقافية والمجتمعية) الكفيلة بعدم تكرار انتهاكات حقوق المواطنين أو انقلاب العسكريين على السلطة المنتخبة. وفي معظم هذه الحالات اعتمد الانتقال على أمور كثيرة أهمها عاملين اثنين: الأول إدراك العسكريين أن الحكم العسكري يُضعف من تماسك المؤسسة العسكرية ذاتها ومن الثقة فيها، وذلك بسبب انتهاكات حقوق الإنسان وانخراط البعض في قضايا فساد والفشل في إقامة قاعدة شعبية حقيقية، ومن ثم ضعف شرعية حكم العسكريين، وتراجع حلفائهم وتقوية صفوف المعارضة المدنية. ولابد أن يقترن هذا الإدراك بوصول قادة عسكريين إلى المناصب المؤثرة، اي القادة الذين يدركون هذا الأمر، ويؤمنون بأهمية خروج العسكريين من السلطة حفاظا على المؤسسة العسكرية في المقام الأول. والثاني تطور حركة اجتماعية وسياسية معارضة، ولها جذور شعبية عابرة للانتماءات السياسية، وقادرة على التواصل مع الأحزاب السياسية لتشكيل بديل سياسي مدني بأجندة سياسية موحدة تقوم على إعادة التمسك بحقوق وحريات الإنسان، وانتقاد الطبيعة الإقصائية والانفرادية للحكومات العسكرية. بجانب امتلاك هذا البديل للحد الأدنى من مهارات الحكم المؤسسي وأدوات الضغط المختلفة، ومنها التظاهرات الشعبية والقدرة على التفاوض ضمن خطة سياسية منظمة وترتيب للأولويات. كان العامل الخارجي عاملا مهما أيضا، لكن وبشكل عام يبدأ التغيير من الداخل، فهو غير ممكن دون رأي عام داخلي مناد بالتغيير وقوى سياسية قادرة على وضع برنامج سياسي حقيقي بديل للحكم العسكري. ومتى وجد هذا العامل الداخلي فإنه كفيل بتحييد العقبات التي قد تأتي من الخارج. خلاصتان أساسيتان هنا: الأولى أن موقف الجيش من عمليات التغيير السياسي في الدول التي حكمها العسكريون لفترة من الزمان موقف مهم وحاسم، فإما أن ينحاز لحكم القانون ودولة المؤسسات والشفافية، فينقذ نفسه وبلاده معا، وإما أن يقف ضد التغيير، فيدخل البلاد والعباد في صراعات لن تنتهي إلا بإضعاف الدولة والجيش معا. أما الخلاصة الثانية فهي أن مقاومة العسكريين للتغيير لن تؤدى إلا إلى تأخير التغيير ورفع تكلفة الحرية وبناء دولة القانون، فهذا النوع من الأنظمة إلى زوال، والعاقل هو من لا يعاند التاريخ وينحاز إلى حرية الشعوب ويسهم في بناء دولة القانون والعدل والمساءلة. فمتى تصل الأمور في مصر إلى هذه المرحلة؟