ربما لم يعد أمام كل من حلم يوما أن يحيا كريما مصانا في وطنه إلا أن يرحل أو يقبل بواقع الحال ليعيش أيامه مستسلما لقضاء النظام وقدره، فمهمة قرع الأجراس أضحت مكلفة إلى حد ضياع العمر، والشرب من نهر الجنون أصبح واجبا وطنيا وفرضا دينيا و ضرورة حياتية، من عزف عنه صار مشتبها في وطنيته، متهما في دينه، مُضيقا عليه في لقمة عيشه، ومرشحا لأن يذهب وراء الشمس ولا يعود!. ومن بين هؤلاء الحالمين المهُددين بضياع أعمارهم؛ لأنه رفض أن يشرب من نهر الجنون كغيره، شاب بعث لي برسالة منذ عام على الفيس بوك، قدم نفسه باعتباره أحد شباب 6 إبريل، واسمه محمد أشرف. طلب أشرف لقائي لأمر ما، فاتفقنا على موعد بأحد مقاهي وسط البلد لألتقي به وشابين آخرين، جميعهم طلبة وأعضاء بحركة 6 إبريل. أخبرني أشرف أنه عرف عني من صديق مشترك نصحه بي عندما حادثه عن رغبته في إعداد برنامج تثقيف سياسي بسيط له ولزملائه بالحركة، تحادثنا بعدها عن الثورة وعن الأوضاع السياسية بعد 30 يونيو، وعن سنياريوهات المستقبل، وتضمن الحديث واقعة اعتبرها أشرف طريفة، واقعة القبض عليه لأول مرة في حياته، هو وزملاء له بالحركة من سرادق خُصص لإحياء ذكرى استشهاد أحد زملائه، ليخرج ومن معه بعدها بكفالة. التقينا بعد ذلك مرتين، كنا على وفاق بأن نكبة الثورة جاءت في المقام الأول من قِبَل من تصدر لتمثيلها، وأن الخطوة الأولى لتجاوز هذه الهزيمة بذل الجهد لتأهيل من يرغب في لعب هذا الدور، بغير ذلك لا فرصة للتغلب على كل الصعوبات التي يفرزها واقع شديد التعقيد ومعادٍ لكل ما تحمله الثورة من قيم، كما هو الحال ببلدنا. اقترحت أن تكون البداية بعيدة عن السياسة. إذا لم تقم السياسة على قاعدة فكرية صلبة استحقت هي وأصحابها اللعنة التي صبها الأستاذ الإمام قديما عليها وعليهم، ورشحت كتابات زكي نجيب محمود نقرؤها معا كبداية، فهي الأنسب في رأيي لتحصيل المنهجية في التفكير، كما أن "الوضعية المنطقية" -التي تبناها زكي نجيب- بصرامتها في تتبع المعنى وكشف الزيف؛ تقيم عقلا عصيا على الخداع بأفانين اللغة ومغالطات المنطق، عقلا قادرا على النجاة بصاحبه من فوضى نعيشها تُقلب فيها الحقائق على رأسها!، ومن هذه القاعدة يمكن الانطلاق لاكتساب الخبرة في أي مجال، كان هذا الاتفاق، لكن ككل فكرة تحمل شيئا من قيمة بهذا البلد لم تأخذ سبيلها للتنفيذ. نفوسنا المشتتة كوطننا الذي اخترمته الفوضى، صرفتها الأحداث المتلاحقة عن متابعة الأمر!. بعد مرور سنة على لقائي بأشرف وزملائه قرأت خبرا بخصوص القضية التي حكى لي عنها، إذ صدر حكم بالمؤبد عليه وتسعة من زملائه. الحكم أصدره القاضي ناجي شحاتة، دون إخطار الشباب المتهم أو حضور محاميهم!. ليس غريبا على شحاتة إصدار حكم كهذا، فتاريخه القصير، منذ إنشاء دائرة الإرهاب وتوليته عددا من قضايا الإخوان وشباب الثورة (والذي اشتمل على 183 حكما بالإعدام و230 بالمؤبد!)، يجعل قراره في حكم العادي، ليمر مرور الكرام!. نعم، الحكم ليس نهائيا، لكن أشرف ملاحق بسببه اليوم، حالٌ ربما دام سنوات، تستحيل خلالها حياته وحياة أسرته إلى جحيم مقيم، أما شحاتة، فيعيش هانئا آمنا مطمئنا في حماية شرطة النظام التي خصصت له حراسة خاصة بعد إصداره حكما بتبرئة 18 ضابطا متهما بقتل المتظاهرين في الأيام الأولى للثورة. "ربما" لأشرف تحمل من الرحمة والأمل ما لم يحمله حكم شحاتة، فربما أهدت الفترة القصيرة المقبلة الحرية للناشط الإبريلي الذي لو أراد التخريب وقطع الطرق، كما نسب له النظام، لما فكر في تثقيف نفسه وتأهيلها لتمتلك القدرة على مد يد المساعدة لبلد منكوب، يحارب "أسياده" المستقبل؛ لأنهم موقنون بكونه لو انتصر على حاضرهم البائس سينزع امتيازاتهم ويردها على جموع الشعب المستعبد!، وربما امتد الأمر لأبعد من ذلك، ليستمر حكم "الأسياد" وبالا على كل حر!