من بين الدروس التي علمتنيها الثورة أننا جميعا لا نحيا في الواقع، بل نعيش داخل تصورات ذهنية عن أنفسنا وعن المجتمع وعن العالم من حولنا، والفارق الوحيد بين شخص وآخر، هو اقتراب أحدهم بتصوره من الواقع، وابتعاد آخر عنه، تفصلهما الدرجة لا النوع. مشاهدتي خطاب الرئيس السيسي، بمناسبة الاحتفال بحرب أكتوبر، أعادت للذاكرة هذا الدرس، وتحديدا عندما أورد الرئيس الحديث النبوي عن موعد قيام الساعة، وأنها تقوم بضياع الأمانة عندما "يسود" الأمر لغير أهله. حديث السيسي يدفع انتقادات وُجهت للتشكيل الوزاري الجديد، ليؤكد على سلامة اختياراته، وأنه لن يضع الأمانة ب"تسويد" الأمر لغير أهله، رغم إبقائه على وزراء وردت أسماؤهم بقضية وزير الزراعة، وفي مقدمتهم وزير العدل أحمد الزند، الذي ارتبط بقضايا فساد أخرى، تناولت الصحف تفاصيلها بالمستندات قبل توزيره! ولم تخلُ الاختيارات الجديدة هي الأخرى من النقد، فكان أن اجتذب وزير التربية والتعليم، الهلالي الشربيني الهلالي، النصيب الأكبر من تعجب الناس وسخريتهم، فالرجل لا يجيد القراءة والكتابة، فضلا عن الابتذال والسطحية التي غلبت على كتابات صفحته الشخصية ب"الفيس بوك"، هذا بجانب رئيس الوزراء الجديد، "الصايع الضايع" بتوصيف اللواء عباس كامل، والتي نشرت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، بمجرد الإعلان عن توليه المنصب، ما يثبت علاقته الوثيقة بالمتهم الأول بقضية وزير الزرعة، محمد فودة! اختيارات السيسي تؤكد معنىً وحيدا، أن أساس تكليف المسؤولين هو الولاء ثم الولاء ثم الولاء، ولا شيء آخر، فعندما يكون لديك وزير للتعليم لا يجيد القراءة والكتابة، ووزير للعدل يرى الناس أسيادا وعبيدا، ووزراء ورئيسهم ليسوا فوق مستوى الشبهات، فلا مجال لادعاء أن الكفاءة والأهلية من معايير الاختيار، ليسقط بالتبعية إدعاء السيسي أنه لا يمكن أن "يسود" الأمر لغير أهله! لا يترك السيسي منفذا تمر عبره حسن النية، وحتى لو حسُنت النية فستصدمنا ذات النتيجة، وهي أن الرئيس هو نفسه ليس من أصحاب الأمانات، واختياراته الخاطئة وحدها كفيلة بانتزاع هذه النتيجة، لكن تصور السيسي عن ذاته لا يعترف بما قلت، فهو يرى في نفسه الحكمة التي دفعت "خبراء المخابرات والإعلاميين والسياسيين وكبار الفلاسفة لو حبيتوه" ينصحون بالاستماع إليه! ولا غرابة أن يكون هذا هو خطاب رئيس كان يعتقد بإمكانية وضع مادة بالدستور تتيح له العودة لمنصبه كوزير دفاع إذا ما خسر الانتخابات الرئاسية، لا غرابة أن يكون هذا خطاب رئيس ترشح للمنصب سعيا وراء تحقيق حلم رأى فيه "ساعة أوميجا عليها نجمة خضرا كبيرة"، لا غرابة أن يكون هذا خطاب رئيس يعلن دوما أنه يخبئ كثيرا من إنجازاته خوفا من الأشرار! إذا ما تحرينا الأمانة في تقييم خطاب السيسي، فلن يعدو خطاب رئيس وحدة محلية لقرية في أقاصي الصعيد، لكن من ضيعوا الأمانة أوهموه وأوهموا الناس أنه رجل دولة لا رجل قرية، فتمادى مرددا تهويمات من قبيل أن خبراء المخابرات والإعلاميين و.. ينصحون بالاستماع إليه!، وأن الله خلقه طبيب..، وهي نماذج لتعبيرات تدل عن طفولية في التفكير أكثر من دلالتها على بارانويا يعاني منها الرئيس! نموذج السيسي ارتبط عبر التاريخ بالكوارث ونهاية العصور، فأن تكون رجلا صغيرا تدرك صغارك ولا تطمح لغير الاستقرار في الحكم والتنعم بأبهته، كما كان مبارك، شيء، وأن تكون رجلا صغيرا تمتلئ بالتهويمات عن نفسك شيء آخر، الأول يكبله الحذر عن ورود الهلكة، والثاني يتقدم إليها مدفوعا بإغواء صورته الموهومة عن ذاته القادرة، وإن كان الاثنان لا أمانة لهما، "فهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُم" (محمد). ْ قال حمار الحكيم يوما *** لو أنصف الدهر كنت أركب لأن جهلي بسيط *** وجهل صاحبي مركب