قبل تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949م، كانت الصين أشبه بعملاق فقير وضعيف للغاية، لكن انتبه هذا العملاق إلى الفجوة بين مكانته الدولية وكتلته السكانية الضخمة، واتخذ قرارًا مهمًّا بضرورة طرح استراتيجية للتحرك نحو التنمية، ليصبح بعد أكثر من خمسين عامًا واحدًا من أكبر الاقتصاديات الكبرى ذات القدرة التنموية العالية، لتخرج بربع سكان العالم من دوامة الفقر والتخلف بتطبيق استراتيجية متكاملة. في البداية لم يكن هناك شكل واضح حول ماهية الإصلاح الاقتصادي والإداري المستهدف من الاستراتيجية العامة للدولة، لكن كان هناك إجماع على ضرورة الانسلاخ من الماضي وإصلاح النظام الاشتراكي، من خلال التغيير التدريجي المتوازن الذي اتخذ سلسلة من الإجراءات لتحقيق التحول، وكانت كالتالي: 1-تطبيق نظام اللامركزية في إدارة المؤسسات الحكومية. 2-السماح بظهور صور أخرى من الملكية مثل الملكية الخاصة والتعاونية إلى جانب الملكية العامة، لكن بشكل محسوب ومتزن للوصول للهيكل الاقتصادي المستهدف (الملكية العامة 30%، الملكية الجماعية 40%، المشروعات الاستثمارية والخاصة 30%). 3-الإصلاح المؤسسي بإعادة هيكلة وهندسة الشركات والمصانع المملوكة للدولة من خلال تقويمها وتطويرها وتحديث خطوط الإنتاج وإغلاق الشركات الخاسرة وفقا لمبدأ البقاء للأصلح. 4- إقامة أسواق المال وتكنولوجيا المعلومات على أسس حديثة، مع إعطاء غطاء تشريعي لها يحدد السياسات العامة ويقر سياسات مرنة لتوزيع الأجور وفقًا للكفاءات والقدرات اللازمة لكل وظيفة. 5- وضع إطار قانوني وإداري يساعد على التجديد المستمر للإنتاج شكلًا وموضوعًا وفقًا لمنهج البحث والتطوير. 6- تعزيز استراتيجية توسيع السوق بالتزامن مع العمل على زيادة الطلب المحلي باعتبار أن السوق الداخلية أهم عناصر القوة في الاقتصاد الصيني. 7- إعطاء أولوية قصوى لقطاع الزراعة وزيادة دخل الفلاح ورعايته بصورة أكبر، وعلى هذا فقد حققت الصين اكتفاءً ذاتيًّا وزيادة في الإنتاج الزراعي برغم أنها لا تمتلك سوى 7% فقط من الأراضي القابلة للزراعة من إجمالي رقعتها. 8- الاعتماد على فلسفة اقتصادية جديدة تتحدث عن اقتصاد السوق الاشتراكي (كهدف) بتطبيق للفكر الاقتصادي الرأسمالي (كوسيلة). 9- الانفتاح الاقتصادي ذو الاتجاه الواحد، فبعد أن عاشت الصين منذ الثورة الشيوعية 1949 م وطيلة عهد الرئيس ماو تسي تونغ، في شبه عزلة عن الاقتصاد العالمي بفعل تطبيق مبدأ الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي، وبعد وفاة ماو، دشنت الصين سياسة الانفتاح الاقتصادي 1978م، فتوسعت علاقاتها التجارية مع العالم وعرفت بنيتها التجارية تحولات واضحة تتمثل في كونها تجارة موجهه للخارج تستوعب فكرة التصدير ولا تتقبل سياسات الاستيراد بشكل حر. من هنا تشكلت بنية التجارة الخارجية للصين على محدودية فتح السوق الداخلية وانفتاح كامل على السوق الخارجية، حتى يكاد لا تكون هناك مقارنة في ميزان المدفوعات بين حجم الواردت والصادرات من وعن السوق الصينية، وتتكون معظم صادرات الصين من المواد المصنعة ونصف مصنعة والآلات والمعدات الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية ثم المواد الزراعية والمعدنية، وتقتصر وتقتصد في استيراد التكنولوجيا ومصادر الطاقة، وكل تلك الإجراءات السابقة جعلت من الصين عملاقًا تجاريًّا يحتل المركز الخامس على مستوى العالم لتصبح المرشح الطبيعي لتكون قطبًا دوليًّا جديدًا يحقق توازنًا في مواجهة الهيمنة الأمريكية، وربما انتزاع مكانتها إذا ما تحركت الصين لذلك. شكوك حول صعود الصين بعد سنوات من نمو اقتصادي مبهر، بدأت تلعب الصين في الوقت الراهن الدور العالمي وأصبحت المستثمر الأهم على الأقل في أوروبا المثقلة بالديون، ومصدرًا للأمل والصراع على حد سواء في إفريقيا، ولاعبًا رئيسًا في العلاقات العالمية إزاء الطاقة، وكذالك المتهم الرئيس فيما يخص القرصنة الإلكترونية، ومع ذلك، تبقى هناك عدة شكوك إزاء ازدهار الصين وصعودها. الكساد العالمي رغم أن قوتها الاقتصادية النسبية ستستمر في الزيادة إلى حد ما، فإن معدلات النمو في الصين قد تتقلص إلى حد كبير، خاصة بعد التباطؤ الملحوظ في اقتصاديات العالم، التي أدت إلى انخفاض معدل الطلب على الصادرات الصينية، هنا تجدر الإشارة إلى أن بكين أدركت هذا التهديد، وعليه قررت أن تكون قيادة اقتصادية لحلف اقتصادي (البريكس) بدلًا من أن تكون قطبًا منفردًا معرضًا لأزمات السوق العالمية. ضغوط السوق العالمي رغم أن هناك ترابطًا وتبادلًا اقتصاديًّا بين الصينوالولاياتالمتحدة وأوروبا بما يوفر حافزًا كافيًا لبكين للعمل وفق النظام الاقتصادي الغربي، إلَّا أن الأخيرة ترى أن ضوابط وضغوط السوق العالمية التي تفرضها عليها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها، قد تكون سببًا أساسيًّا في تهديد عرشها الاقتصادي، وعلى هذا رأت أن الانضمام مع روسيا وعدد من القوى الاقتصادية الصاعدة لتشكيل (البريكس) بهدف مواجهه ضغوط أمريكا والغرب. التقلبات الاقتصادية والاجتماعية هناك نقطة ضعف بالاقتصاد الصيني تتمثل في التبعية للخارج فيما يتعلق باستيراد المواد الأولية والطاقية وبتسويق المنتجات الصناعية، وهذا يعرض الاقتصاد الصيني للتقلبات المالية، كما يعاني من ضعف شبكة المواصلات، مقارنة مع مساحة البلاد، وتمركز الأنشطة الاقتصادية بالمناطق الشرقية للبلاد، مما أدى إلى وجود تفاوت في التنمية البشرية للسكان بحيث تتأزم الوضعية الاقتصادية والاجتماعية مثل الهجرة من البوادي إلى المدن، الأمية، البطالة، الفقر، الأمراض، ويتضح هذا في المناطق الداخلية والغربية والجنوبية. المحيط الإقليمي الإطار الاستراتيجي للصين هو الأكثر تهديدًا وإشغالًا لها، وعلى هذا تلعب النخب السياسية في الصين دورًا مهمًّا لتعزيز التماسك الداخلي، بالتوازي مع دور الجيش الصيني في تشكيل السياسة الخارجية، الذي أدى إلى اتخاذ بكين بشكل تدريجي خطًّا دوليًّا أكثر حزمًا، لاسيما فيما يتعلق بجيرانها بآسيا والمحيط الهادي، وتلك النقطة التي تتعامل معها الصين بجدية قد تستخدمها الولاياتالمتحدة كورقة ضغط عليها عند الضرورة، من خلال دعم دول تعارض سياسات الصين في إطارها الإقليمي. التماس الاستراتيجي ربما تبدو كل من روسياوالصين في حالة تماس سياسي واستراتيجي، إلَّا أن هذا التماس يجعل حلم قطبية الصين رهن دعم موسكو، ومن خلال مؤشرات دوائر القرار في موسكو، نجد أن هناك رغبة لدى الدب الروسي في العودة للمنافسة على قطبية العالم، مما قد يضع الصين في موقع المنافس الثالث، وهذا مستبعد، فالصين تدرك دورها الحقيقي الذي يمكنها من خلاله التأثير على روسيا لتجعلها ضمن دائرة الشركاء التي ستكون مرغمة لقبول الصين بوزنها الاقتصادي. المراجع - فايزة كاب، التجربة الصينية مناقشات وآراء خبراء سياسيين صينيين ودوليين، المركز العربي للمعلومات، مارس 2010م. - أحمد قنديل، البحث عن تعددية قطبية: محاولات حثيثة لإعادة صياغة النظام العالمي، المركز العربي للبحوث والدراسات، يناير 2015م، القاهرة. - محمد مسعود، التحولات الاستراتيجية لسنة 2012م: من عالم متعدد القطبية إلى عالم متعدد المركزية، مركز الدراسات الأمنية بسويسرا، ترجمة مركز نماء للبحوث والدراسات،21سبتمبر2013م. - عمرو عبد العاطي، اللا قطبية.. تحولات النظام الدولي تهدد الهيمنة الأمريكية، مؤسسة الأهرام، مجلة السياسة الدولية. - م.الثابت والمتغير في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، صحيفة الحياة، 23 يوليو 2010 - تقرير مختصر عن العلاقات الاقتصادية والتجارية المصرية والعربية والإفريقية مع الصينية، وزارة التجارة والصناعة، التمثيل التجاري المصري شرم الشيخ خلال الفترة 6-9 نوفمبر 2009م. - سيواني عبد الوهاب، الذكاء الاقتصادي الصيني في الحصول على التكنولوجيات العالية، جامعة البويرة، الجزائر.