بعكس الدور الذى اعتدنا أن نمنحه للصين كانت هي تتطلع لقطبية العالم في الغد، فقد تعامل العالم مع الصين على أنها تنين مترهل الجسد، منشغل بإطعام نفسه، مسالم طالما ابتعد عنه الخطر، ورأت كل من الولاياتالمتحدة وروسيا أنه جدير بالصين أن تبقى في حديقة العالم الخلفية مع التعامل معها ببعض من المراوضة السياسية والاقتصادية، وبعكس هذا كانت الصين تتحرك وتراقب البوابة الأمامية للعالم لتحدد موضع قدمها لريادة العالم. ورغم أن الخطاب الرسمي والعسكري للصين يتحدث عن التنمية السلمية، إلا أن تلك التنمية في حقيقة الأمر أشبه بستار من دخان أمام رغبة بكين في بسط نفوذها كقطبية دولية قادمة، وهذا مشروع لكل دولة تتبنى حلما ومشروعا. وفى مقابل تلك الرغبة المستترة وقفت أمريكا وروسيا تتوددان للصين في العلن، وتضعانها ضمن دائرة حلفائهما، وكل هذا ليس مهما بالنسبة لنا كشرق أوسط، بل الأهم أن ندرك واقع القطبية العالمية القادمة, فمتى تسقط أمريكا ستنهض الصين نحو عرش العالم، ولن تسمح بموضع قدم لأحد بالقرب منه. فالصين هي الأخرى ترى نفسها أجدر بميراث حضارة العالم، وترى أيضا أن معدلات التنمية كافية لتحقيق طموحات الأمن القومي لها، وعكس الاعتقاد بالنسبة لها صحيح. ومتلازمة الصين أن جيشها هو أكبر جيوش العالم عددا (2.3 مليون رجل وامرأة)، كما أنه أقلها في خوض الحروب، تلك المتلازمة بين تعداد الجيش وحالة السلام يجعلنا نعتقد أن تلك الحالة من الجاهزية والتعبئة الكثيفة وراءها دافع المستقبل المنتظر من بكين، فواقع الأمر أن الصين لم تعد معنية بتأمين حدودها بقدر ما باتت تتطلع إلى محيطها الاستراتيجي بتنمية ذاتها. ويبدو هذا جليا في الكتاب الأبيض الذي نشره مجلس شؤون الدولة الصيني، والذى جاء فيه "ينبغي التخلي عن العقلية التقليدية التي تعتبر المخاطر البرية أكثر أهمية من المخاطر البحرية، حيث يجب إعطاء أهمية أكبر للتصرف في البحار والمحيطات وحماية الحقوق والمصالح البحرية الصينية"، وعلى كل الأحوال فقطبية الصين ونفوذها العسكري تقف أمام عقبة هذا المحيط، فهي تقف على حدود مشتركة مع أربع عشرة دولة مجاورة، أربع منها تمتلك أسلحة نووية، مما يجعل الصين بين شيزوفرنيا محيطها الجغرافي المعقد وطموحها الاستراتيجي في السيطرة على هذا المحيط ومن ثم العالم. وبهذا تحركت الصين لتطويع محيطها، فبدأت بمضاعفة بناء المدارج والموانئ وغيرها في الشعاب المتنازع عليها في بحر الصين، هذه المناطق التي تريد أن تجعلها الصين مختبرا لقوتها العسكرية، ومن واقع تجربة التاريخ يتضح أن الصين استوعبت درس انهيار الاتحاد السوفيتي وعاصرت بحضور المراقب لا المشارك في الحرب الباردة لتخرج من حقبة صراع قطبيات التاريخ بتجربتها المقلة لتكون هي القطبية القادمة، فقد أدركت الصين أن القوة العسكرية ليست كافية لقيادة العالم، وأن امتلاك الاتحاد السوفيتي جيشًا قويًا لا يعوض فشله الاقتصادي الذى كان له معكوس مبكر على قدراته العسكرية وتخلفه في سباق التسلح، ولهذا السبب سعت الصين لزيادة الميزانيات العسكرية لها منذ أوائل التسعينات بهدف تحديث التسليح لتمتلك أول حاملة طائرات منذ عام 2012، مع حاملة طائرات ثانية قيد الإنشاء. وهذا يؤكد دلالة أن الصين أوشكت أن تصارح العالم بطموحها، خاصة بعد المنافسة والتهديد الضمني لتكنولوجيا التسليح الأمريكي والذى تضمن إنتاج بكين لصواريخ بالستية من نوع DF-21D، الأمر الذي أقلق البنتاجون؛ بسبب قدرة هذه الصواريخ على ضرب حاملات الطائرات الأمريكية، وسنكمل في العدد القدم طرح استراتيجيات الصين المستقبلية على درب قطبية العالم. مصدر البيانات: تقرير بصحيفة لوفيغارو الفرنسية، تحت عنوان: هل ينبغي لنا أن نخاف من الجيش الشعبي الصيني؟. [email protected]