وسط شارع الرمال بمدينة غزة، يقف مقهى الكروان شامخاً ومحافظاً على شكله الكلاسيكي القديم رغم العمران الكبير الذي أصبح يحيط به لوجوده في منطقة حيوية تقع في قلب مدينة غزة، ورغم هذه التكنولوجيا وهذا التطور الحاصل في المنطقة المجاورة للمقهى، إلا أنَّ من يقوم على إدارة هذا المقهى ما زال محتفظاً بشكله القديم منذ نشأته قبل 47 عاماً. أصبح الكثير من الناس يعتبرون الكروان واحداً من المعالم الهامة للمدينة، فهو يجسد الحياة التقليدية للبسطاء والعامة، فهنا يجتمع المثقف والفنان والبائع المتجول وطلبة الجامعات، يلعبون الورق والطاولة، يعزفون الموسيقى أحياناً، ويشربون المشروبات الساخنة التي يقدمها المقهى، مع وجود "الأرجيلة" التي لها شكلها ولونها وطعمها أيضاً. يتحدث الكاتب هشام ساق الله عن قهوة الكروان قائلاً: "مقهى الكروان في مكانه الحالي منذ عام 1968 وافتتحه المرحوم صبحي حسن عواجه، وكان سابقاً في سينما الجلاء، وصاحبه لديه خبره كبيرة حيث عمل في بداية شبابه بمقهى في مدينة يافا المحتلة وحين هاجرت عائلته من قرية برقة إلى غزة؛ عمل أيضاً في هذا المجال". مقهى الكروان يمتلئ بصور القادة الفلسطينيين الكبار على مختلف أشكالهم وأطيافهم، حيث تجد صور للشهيد ياسر عرفات، والشهيد أحمد ياسين، والرنتيسي وأبو جهاد، وصور لشهداء آخرين وصور لصاحب المقهى القديم، المرحوم صبحي عواجة. وحول النمط الموجود في المقهى، يقول هشام ساق الله أيضاً: "لا زال أصحاب مقهى الكروان يحافظون على النمط القديم، فهناك كراسي خشبية من النوع القديم وطاولات مربعة ومستديرة قديمة للغاية، ولا زالوا يقومون برش نشارة الخشب على الأرض لمنع الروائح وامتصاص الميكروبات، ولا زالت القهوة والشاي والنسكافيه والحلبة واليانسون تقدم مع ملعقة صغيرة وطاولة حديدية مستديرة". الشاب عمرو الأعرج هو واحدٌ من الشباب الذين يزورون المقهى ويجلسون فيه، وفي حديثه للبديل، قال الأعرج: "مقهى الكروان من الأماكن القديمة والعريقة في غزة، يشبه في كثير من الأحيان المقاهي المصرية القديمة، لقد أمضيت فترة في مصر وأستذكر عدداً من المقاهي التي تشبه الكروان. أحب زيارة هذا المقهى حيث ألتقي بأصدقائي، نلعب الورق، ندخن الأرجيلة، ونتحدث في أمور حياتية كثيرة، هو مساحة للحديث إلى الأصدقاء وأحياناً للتعرف على أشخاص وتجارب جديدة. الجميل في الكروان أنَّ مرتاديه أناس من كافة الطبقات والجميع هناك يستطيع دفع أجرة وتكاليف المشروبات، فالأسعار زهيدة وفي متناول الجميع. ولكن الشيء الذي لم أحبه في الكروان وفي مقاهي غزية كثيرة أخرى.. أنها أماكن ذكورية بامتياز". أما عن الصحفي إيهاب الحلو، فيقول للبديل: "أحب زيارة المقهى في كثير من الأحيان، هناك مساحة لرؤية الناس والتواصل معهم، وأيضاً للتخلص من عبء العمل وازدحام المدينة، الكروان جميل وجماله يكمن في بساطته وبساطة الناس الذين يذهبون إلى هناك، بخفة روح النادل أبو حسام صاحب لقب [برِّي] الذي يعرفه الجميع به، وبروح التعاون الموجودة بين الإخوة أصحاب المقهى وبين الناس الذين يذهبون إلى هناك، هذا ما جعلني أحب المكان وأحب الذهاب إليه من وقت إلى آخر". أما عن البري الذي تحدث عنه الحلو، فهو عامل القهوة الذي يعمل فيها منذ فترة لا يتذكرها، وهو شخصية محبوبة ومشهورة بين أوساط الناس، الزبائن يفضلون بري دائماً لأنه مطيع ويقوم بعمله على أكمل وجه، فطوال النهار ينادي الزبائن على بري، ويذهب البري فوراً لتلبية الطلب. بري يعرف جميع الزبائن وكافة الزبائن يعرفونه وكل الزبائن تمازح بري وتحادثه وهو يبتسم ويعمل منذ ساعات الصباح حتى المساء وهو بكامل طاقته وحيويته. أبو محمد عواجة هو الابن الأكبر للحاج عواجة، وهو الذي يقوم الآن على إدارة المقهى برفقة إخوته، يقول للبديل: "أنا هنا منذ زمن طويل، لدي ارتباط كبير بالمقهى وبزبائنه وبأسلوبه الذي يميزه عن باقي المقاهي في المدينة، نحاول أن نحافظ على شكل المقهى القديم، الشكل الذي تركه آباؤنا، هو يترك لنا مساحة للذكريات ولمعرفة شكل الحياة قديماً، وأنا سعيد لأنَّ المقهى يلاقي إقبالاً من الجمهور ومن مرتاديه الذين ينتمون إليه مكاناً ومكانة". وتابع أبو محمد قائلاً: "أتمنى أن نحافظ على الموروث الثقافي والحياتي الذي نأخذه عن بعضنا البعض، حتى نستمر في توثيق الحياة والأحداث بصورة تثبت هويتنا وتحافظ عليها من الضياع في ظل المحاولات الكبيرة لطمس وإنهاء أشكال الثقافة والحياة والفنون الفلسطينية المختلفة". وجوه كثيرة تبدلت ووجه الكروان ما زال قائماً شامخاً لا تتغيَّر ملامحه رغم شيخوخة من كان يرتاده قبل 40 عاماً، ورغم وفاة الحاج صبحي الذي نقل التجربة إلى أبنائه، ذهبت تلك الأجيال جميعها، إلا أنَّ أناساً آخرين ما زالوا يحاولون الحفاظ على شكل الكروان وهيبته، وكلاسيكية الحياة التي يُكوِّنها الكروان ببساطته وطيبة أهله وأصحابه.