لعقود خلت، حظي تحقيق الكتب والمخطوطات بمكانة كبيرة، حيث قدم المحققون الكبار كتبا تراثية لم تكن تعلم الأمة إلا أسماءها وأسماء مؤلفيها، كما ألقى هؤلاء المحققون الضوء على مناطق مظلمة من التراث، وتتبعوا مراد المؤلفين فيما سطروه، وفيما استكن بين السطور. وقد اهتم العرب قديما بما اصطلحوا على تسميته ب"الضبط" و"التحرير" و"المقابلة"، وفي المعجم الوسيط: ضَبَطَ الكتابَ ونحوه: أصلح خلله أو صححه وشكَّله. أما التحرير فعَرَّفه أبو بكر الصولي في "أدب الكُتَّاب" بقوله: "تحرير الكتاب خلوصه، كأنه خلص من النسخ التي حرر عليها وصفا عن كدرها". وأما المقابلة فهي مقارنة نسخ الكتاب بعضها ببعض من أجل ضبط النص وتصحيه. وفي كتابه "سيبويه إمام النحاة" يقول الأستاذ علي النجدي ناصف: كان للقدماء عناية ملحوظة بضبط النصوص والمحافظة على صحتها، كانوا يروون أخبارها بالسند حتى يرفعونها إلى أصحابها، على نحو ما كانوا يصنعون بأحاديث الرسول عليه السلام، وكانوا ينسبون نسخ الكتب التي يكتبونها فرعا إلى أصل، حتى يبلغوا بها أوائلها التي تحدرت منها". وقد بلغت عملية التحقيق العربية قدرا عاليا من الدقة والنضج خلال القرن الماضي، مع ظهور طبقة المحققين الكبار أمثال عبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر، والأخوين أحمد ومحمود شاكر، وصولا إلى محمود الطناحي. ورغم تباين طرائق هؤلاء الأعلام في التعامل مع النصوص التراثية، إلا أن جهودهم جميعا اتسمت بجدية صارمة، وببذل غاية الجهد لإخراج النص التراثي ووصول معناه ميسرا إلى القارئ دون افتئات على مراد المؤلف، وكان عبد السلام هارون صاحب أول كتاب عربي يناقش مناهج التحقيق، ومشكلاتها حيث أصدر عام 1954 كتابه "تحقيق النصوص ونشرها". ولعل هارون هو أكثر المحققين إنتاجا، فقد أخرج للمكتبة العربية عشرات الكتب والمخطوطات، ومنها: تهذيب سيرة ابن هشام، والبيان والتبيين للجاحظ، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم، والكتاب لسيبويه، وصفة الصفوة لابن الجوزي. أما محمود شاكر، فنال مكانته بين المحققين بلفتاته الذكية، وإشاراته العميقة، وبلغ الرجل ذروة في تحقيقه وتقديمه لكتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، بالرغم من رفضه لكلمة "تحقيق" وإيثاره لوصف جهده ب"التعليق". وقد كان مسلمو الهند أسبق بحركة النشْر للتراث العربي، في أواخر القرن الثَّامن عشر الميلادي، عندما أُنشئت المطابِع في مدينة "كلكتا" وكان من أوائل ما نُشر فيها: "السراجية في الفرائض" "للسجاوندي" عام 1793، و"الهداية" "للمرغيناني" عام 1807، و"الفصول الأبقراطية" عام 1832، و"ألف ليلة وليلة" عام 1839 – 1842، و"فهرست الطوسي" عام 1853، و"تاريخ الخلفاء" "للسيوطي" عام 1856، و"الإصابة في تمييز الصحابة" "لابن حجر" عام 1856، وغيرها من أمَّهات المصادر. كما اهتمَّت دائرة المعارف النظامية (ثم العُثمانية) في حيدرآباد منذ إنشائها سنة 1308 هجرية بانتقاء أهمِّ المصادر في مختلِف الفنون، وحصر مَخطوطاتِها وجمع مصوَّراتِها، ثُمَّ القيام بتحقيقها ونشرها بواسطة لَجْنة علميَّة برئاسة الأستاذ محمد هاشم النَّدوي، والذي وضع برنامجًا للنشر، وجمع العلماء والباحثين من الهند وخارِجَها، واتَّصل بالمستشرقين والمهتمين بالتُّراث العربي. وقد كانت دائرةُ المعارف أوَّلَ مؤسَّسة عِلمية في الشرق تعنى بنشر عيون التُّراث التي لا تَخلو منها مكتبة عربية في العالَم، وكانت منشوراتها موضِع ثقة واحترام في الشَّرق والغرب، واتكأ عليها الباحثون والدارسون للتراث العربي وعلوم الشريعة في كل مكان. وكشأن أكثر العلوم، تدهور فن التحقيق، وزهد فيه الباحثون، لما رأوا من عدم التقدير المادي والأدبي، وأصبحت أكثر التحقيقات تفتقد إلى جدية جيل الرواد ومثابرتهم، وتكوينهم العلمي المتين، من ثقافة موسوعية، وإحاطة باللغة العربية، كما أن قانون الجامعات لا يعترف بتحقيق المخطوطات في سلم الترقية. وربما ظن كثيرون أن تيسير وسائل الاتصال، وتدفق المعلومات عبر الإنترنت، تسهم في تيسير عملية التحقيق، ونشر التراث، لكن من الواضح أن سرعة الاتصال، سهولة المعلومات لا تتفق مع حالة الصبر وطول الأناة والتمكن من الأدوات المطلوبة لتحقيق نصوص تراثية في علوم اللغة والشريعة والفلسفة والتاريخ والأدب.