يسيطر مدعو السلفية في زماننا على فئات من الناس بدعاوى كلها تنطلق من الحفاظ على المسلمات والمقدسات، فهم يربطون أنفسهم بأصول الدين، ويخيلون لسامعهم حجما أكبر بكثير من حجمهم الطبيعي عبر التاريخ الإسلامي، فهم زورا أهل العقيدة الوحيدة الصحيحة والتي لا صحيح سواها، وهم باطلا أهل الحديث ووارثو السنة وعلومها والقائمون عليها رعاية وحفظا وتنفيذا، فيشتدون ويتشددون في تعظيم صفاتهم ك"أهل الحديث" المفترضين، ويحيطونها بهالة من النور والقدسية تكاد تعمي كل من يحاول النظر إليها فضلا عن التقليل منها، وفي عصر الانحدار الثقافي الذي نحياه هوّل "السلفيون" من مكانة أئمتهم وشيوخهم عبر التاريخ، وحاولوا طمس كل معايبهم والمآخذ التي سجلت عليهم، وهو ما نعرض نماذج لها سجلها علماء كبار. ولنبدأ مع واحد من الأئمة الكبار، الحافظ شمس الدين الذهبي (736ه -748ه) هو من تلاميذ ابن تيمية -زعيم الفكر الوهابي- في كتابه "زغل العلم" والذي عقد فيه بابا بعنوان علم الحديث جاء فيه: "وأما المحدثون فغالبهم لا يفهمون، ولا همّة لهم في معرفة الحديث، ولا في التدين به، بل الصحيح والموضوع عندهم بنسبة، وإنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواية، لا يتأدبون بآداب الحديث، ولا يستفيقون من سكرة السماع، الآن يسمع الجزء ونفسُه تحدّثه: متى يرويه أبعد خمسين سنة؟ ويحك ما أطول أملك، وما أسوأ عملك، معذور سفيان الثوري، يقول فيما رواه أحمد بن يوسف التغلبي، حدثنا خالد بن خداش، حدثنا حماد بن زيد، قال سفيان الثوري: لو كان الحديث خيرا لذهب كما ذهب الخير" . ومن قبله عقد لهم ابن عبد البر (368ه -463ه) بابا جامعا في كتابه "جامع بيان العلم وفضله ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له والتفقه فيه" قال فيه: "أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم، دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه فمكروه عند جماعة أهل العلم، فعن عمرو بن الحارث: ما رأيت علما أشرف ولا أهلا أسخف من أهل الحديث. وينقل بسنده عن مغيرة الضبي، قوله: والله لأنا أشد خوفا منهم من الفساق, يعني: أصحاب الحديث. وعن ابن أبي ليلى، قال: لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع. وعن شعبة، يقول: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون. وقال نعيم بن حماد: كان أبوبكر بن عياش يبزق في أصحاب الحديث. وعن شعبة: "كنت إذا رأيت رجلا من أهل الحديث يجيئني أفرح به، فصرت اليوم وليس أبغض إليَّ من أن أرى واحدا منهم"، وقال لأصحاب الحديث: "قوموا عني، مجالسة اليهود والنصارى أحب إلي من مجالستكم، إنكم لتصدون عن ذكر الله وعن الصلاة"، و"كان الفضيل بن عياض إذا رأى أصحاب الحديث قد أقبلوا نحوه، وضع يديه في صدره، وحرك يديه وقال: أعوذ بالله منكم "وسئل المازني -النحوي الكبير- عن صفات أهل العلم فقال: "أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأهل الحديث فيهم حشو ورقاعة". وعن ابن قتيبة (213 -276ه) في كتابه "تأويل مختلف الحديث" قال: "وإنا لا نخلي أهل الحديث من العذل في كتبنا.. في تركهم الاشتغال بعلم ما كتبوا، والتفقه بما جمعوا، وتهافتهم على طلب الحديث من عشرة أوجه وعشرين وجها.. وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع لمن أراد الله عز وجل بعلمه حتى تنقضي أعمارهم ولم يحلوا من ذلك الا بأسفار أتعبت الطالب ولم تنفع الوارث، فمن كان من هذه الطبقة فهو عندنا مضيّع لحظه، مقبل على ما كان غيره أنفع له.. وقد لقبوهم بالحشوية والنابتة والمجبرة، وربما قالوا الجبرية، وسموهم الغثاء والغثر، وهذه كلها انباز.." هكذا كانوا منبوذين من كبار علماء القرون الثلاثة الخيرية الأولى، التي طالما دعوا الجميع للعودة إليها!