- صنع الجنس الروائي في أرض مخصصة للشعر ولادته في شتاء 1911 أنبأت عن وصول من سيكون له شأن عظيم، ولد في تلك الحواري الفقيرة، وسط أحياء القاهرة التاريخية، التي تفيض بآلام أهلها وأحلامهم، ليقاسمهم عبق خان الخليلي وشارع المعز، وحكايات مصر المحروسة، ليمضي شبابه بين شوارع القاهرة القديمة، ما أوحى له تفاصيل روائعه الأدبية، التي خلدت اسمه في ذاكرة الأدب العالمي. (نوبل السمراء) في ثلاثينيات القرن الماضي، أبدع في الرواية والقصة القصيرة، بداية من «عبث الأقدار»، أولى الروايات التي أصدرها سنة 1939، إلى رواية «خان الخليلي» ثم «بداية ونهاية» وصلًا إلى «أولاد حارتنا».. نجيب محفوظ، الطفل المدلل لوالديه فهو أصغر إخوته، عاصر ثورة 1919، التي وظفها في رائعته «بين القصرين»، التي تحولت إلى فيلم هي وأغلب رواياته الأخرى، إذ يعتبر صاحب الثلاثية أكثر الأدباء العرب الذين تحولت إبداعاتهم الأدبية لأعمال، قدمت على شاشات السينما والتليفزيون. آلاف القراء بمختلف الجنسيات يستقرأون أسلوبه المتميز، الذي جعل من الكتابة الروائية مشروعًا مترابط الحلقات، واضح الخطوط، لذا ظل النقاد يبحثون في مواصفات أدب «محفوظ» في القرن الواحد والعشرين، والذي صنع الجنس الروائي في أرض مخصصة للشعر.. في دراسته بعنوان «هل من نجيب عربي في القرن الواحد والعشرين؟»، لفت الناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين إلى قدرة محفوظ على الإصغاء للواقع، وأن كل كتاباته كانت وفقًا للتحولات التي يعيشها الواقع المصري، بالإضافة إلى اختزال الواقع العربي، إذ شخصت كتاباته الواقع الاجتماعي المصري في تحولاته، فمحفوظ بوصفه أذكى من السياسي، يأخذ بذرة الحكايات ويكتب روايته؛ لنستشعر أنه يقرأ نفسه حين قراءة نصوصه، ثم يتغير في نهاية الرواية وفقًا لتغيرات الواقع المعاش. «محفوظ» أجاد تنظيم الوقت، نجح بتجديد ذاته بما فيها علاقته بالثقافة مما جعله يتميز بالاستمرارية في الكتابة، واعتماده على مقومات عصره والتي خلقت منه موضوعًا سرديًا، لم يتوقف بموته بل يستمر ببلاغته، ويذكر مقربون منه أن حياته المنظمة انعكست على أدبه الذي تقسّم وتنظّم بصورة متناسقة مع مجريات الأحداث والأزمات التي تعرّضت لها بلاده مصر، وهذا النظام الأدبي المتناسق يبدو وكأنه يسير على طريق أدبي مخطط له مسبقاً. الباحث عمار على حسن، يقول إن نجيب محفوظ كان يؤمن بأن الجهد الفائق هو العمود الفقري للعبقرية، وأن الإبداع "عملية إرادية"، ومن هنا كان محفوظ حريصًا على أن يجلس كل يوم ينعم فيه بالإبصار السليم المعافى كي يكتب، إلى الدرجة التي كانت تبدو فيه المنضدة جزءا عزيزا من جسده. وأن هذا الحرص جعل صاحب "أولاد حارتنا" يكتب حتى الرمق الأخير، فلما شلت يمينه بعد محاولة اغتياله في عام 1994 راح يدرب يده على الكتابة بحروف مرتعشة، وكأنه طفل حديث عهد بالقلم، حتى تمكن من أن يخط سطورا قصصية جديدة، ثم انتهى إلى الإملاء على سكرتيره الخاص، حتى لا يكف عن الكتابة مهما حصل، ولما انقطعت صلته بتفاصيل المجتمع والناس لضعف سمعه وبصره، لجأ إلى رؤى الليل وأحلامه، لينسج منها أقاصيص رائقة عميقة، جمعها في كتابه "أحلام فترة النقاهة". (حوار الإنسان والمكان) عاصر الفتوات، ومن نفس النافذة التي رأى منها ثورة 19 ، شاهد خناقة الفتوات، التي يصفها في حوار نادر مع الإذاعي عمر بطيشة: "كانت تبقى بالليل الزفة بتاعة العرسان، دي أحسن فرصة علشان التارات القديمة بين الفتوات، ما هي الزفة دي طالعة من حارة رايحة حارة تانية فيها فتوات لهم تار مع حارتنا". وعن أشهر حكايتهم اللي أثرت فيه، يقول: "وأنا في الحي العتيق بالجمالية، كنت أعرفهم معرفة سطحية، ولكن لما روحت العباسية، بجوار أشهر فتوة في مصر وقتها "عرابي"، اللي لو شفت شكله ومهبته، لو تلبسه في بدلة يطلع زعيم، كان نفوذه ضخم جدًا، وفضل على هذا النفوذ، لدرجة أن "عرابي" حمى قدامنا مرة مأمور بوليس، وعلى قهوة عرابي كان ييجي الأعيان والبشوات، وكانوا بيقعدوا عنده لحاجاتهم ليه أيام الانتخابات، فهو كان ملك الحسينية، وشوف الحسينية كام صوت في الانتخابات". ظل أديب نوبل وسط أعضاء الحرافيش، على مقاهي مصر العتيقة، كانوا يجتمعون دائمًا، مجموعة من الشباب الطموحين في بداية الأربعينات، جمعتهم الأحلام المشتركة، الشلة المكونة من الأديب العالمي نجيب محفوظ، والفنان أحمد مظهر، والسينمائي توفيق صالح، وعادل كامل، والأديب عادل عفيفي، وبهجت عثمان وصبري شبانة ابن عم الفنان عبد الحليم حافظ، والإذاعي إيهاب الأزهري، ودخل وخرج من "الحرافيش" من أسماهم محفوظ "الأعضاء غير الدائمين" مثل صلاح جاهين، ومصطفى محمود، ولويس عوض، وأحمد بهاء الدين، وثروت أباظة. "قشتمر، إيزيس، عرابي، زقاق المدق، الفيشاوي"، تلك المقاهي التي قصدها الحرافيش، حتى انتقل مكان تجمعهم في الستينيات إلى مقهى "ريش" لتصنع تاريخًا أدبيًا لهذا المقهى بعد ذلك، ثم اعتادوا على الالتقاء كل يوم خميس، في بيت الأديب الساخر محمد عفيفي في حي الهرم، لكن بعد وفاته أصبحت الشلة تتجمع في بيت عادل كامل، لكن مع رحيل أعضاءها واحد تلو الآخر إلى مثواه الأخير، تحولت لمجرد ذكرى تطوف أرواحهم حول مقاهي "الفيشاوي" و"ريش" و"قشتمر".