تتزايد فى الأيام الأخيرة نغمة الحديث عن (المصالحة) ، واتخاذ اجراءات واعلان مبادرات ، وغيرها من الخطوات التى تمهد الأجواء لما يختزله البعض عند الحديث عن المصالحة على كونها بين السلطة أو النظام القائم وبين جماعة الاخوان . فى هذا السياق يفسر البعض خطوات اخلاء سبيل بعض قيادات الجماعة المتهمين على ذمم بعض القضايا ، والتراجع النسبى فى مظاهرات جماعة الاخوان ومؤيدى المعزول مرسى ، رغم استمرار أحداث العنف فى مواقع متعددة ، ويتوقعون استمرار مثل تلك الخطوات ، فضلا عن تزايد الحديث نسبيا عن مبادرات ومقترحات لمثل تلك المصالحة . ولا أحد يريد للبلاد بالتأكيد استمرار وضع الاحتقان السياسى الى ما لا نهاية ، لكن أيضا لا أحد يريد العودة إلى ما سبق من صفقات تتم فى غيبة عن الرأى العام ، وفى تحول مفاجئ عن المواقف السابقة التى كانت تماما وكلية ضد مصطلح (المصالحة) فى ذاته . من هنا ، فإن التأكيد على أن هذه المصالحة التى يتحدثون عنها أولا لا تقتصر بالتأكيد على المصالحة بين السلطة وجماعة الاخوان او قادتها ، وانما مفهوم المصالحة الذى يحتاجه الوطن هو مصالحة أوسع تمتد للمجتمع بأكمله ، وهى تحتاج لكثير من الخطوات والاجراءات .. وهى مصالحة لا تتجاوز حق المجتمع فى محاسبة من أجرموا فى جرائم عنف أو قتل أو ارهاب أو اسالة دماء .. وهى كذلك مصالحة لا تتجاوز ما أنتجته ارادة الشعب المصرى فى 30 يونيو وما أنتجه الدستور الجديد للبلاد من حقائق ، وهى رفض وجود كيانات غير شرعية وغير قانونية مثل جماعة الاخوان ، ورفض اقامة أحزاب على أساس دينى تحتكر الحديث باسم الدين وتتستر تحت غطائه فى ممارساتها السياسية . أما المدخل الأهم فى كل ذلك ، وهو الفريضة الغائبة فى هذا الملف كله ، فهى العدالة الانتقالية ، التى تكشف الحقائق وتحاسب من أجرموا ، قبل أى حديث عن مصالحة ، وهى عدالة تنطبق على الجميع دون تمييز سياسى بحسب الأهواء ، من انتموا لنظام مبارك أو سلطة الاخوان ، فكلاهما أجرم فى حق الوطن ، وكلاهما ممن تثار الأحاديث حول التصالح معهم على فترات متباعدة ، وان كان الواقع الآن يقول بوضوح أن بقايا نظام مبارك عادت بالفعل الى الساحة دون احتياج الى مصالحات . لكن المدهش هنا والمثير للعجب ، هو أن أكثر من هاجموا كل ما يمت للمصالحة فى الشهور السابقة ، سواء كانوا على حق أم لا ، هم أول من صمتوا تماما فى الأسابيع الأخيرة مع تردد تلك النغمة ، خاصة فى ظل ما يثار حول تبنى أطراف فى السلطة الحالية لهذا الموقف سعيا للتهدئة ، وبما يشمله ذلك من تصورات لدى البعض حول دخول قوى التيار الدينى بما فيهم الصف الثانى والثالث من جماعة الاخوان فى الانتخابات البرلمانية المقبلة ووجود حصة لهم .. وهى كلها توقعات سبق للبعض الاشارة لها ، خاصة أن المعروف أن جماعة الاخوان دائما ، ورغم قسوة واحتدام المواجهة معها هذه المرة عما دار فى العهود السابقة ، الا انها دائما جاهزة ومستعدة لعقد الاتفاقات والصفقات التى تضمن لها قدرا من الحركة والتواجد ، كما أن طبيعة السلطة القائمة قد لا يكون لديها أسباب جوهرية اذا ضمنت اعتراف الاخوان بها والعمل تحت مظلة نظامها السياسى ، فى الوصول لتسويات واتفاقات معهم ، مع البحث عن صيغ تحفظ لها ماء وجهها أمام المجتمع . ان مفهوم المصالحة الوطنية ، الذى كان جزءا من خارطة طريق المستقبل التى نتجت عن 30 يونيو ، جرى تشويهه كثيرا فى الشهور السابقة ، بعد أن جرى اختزاله كما يسعى البعض الآن لممارسته فى المصالحة بين السلطة والاخوان ، وهو ما نرفضه أيضا بكل تأكيد ، بالذات اذا جرى خارج الشروط السابقة ، لكن لا تستطيع مصر أن تتحمل ، خاصة اذا كانت تسعى حقا للتطلع الى المستقبل ، للاستمرار فى الوضع الراهن ، الذى يفتح أبوابا واسعة لتزايد الظلم الاجتماعى لقطاعات ودوائر خارجة حتى عمن يرفض بسببهم مفهوم المصالحة ، لكن كما أشرنا فالوطن بحاجة لمصالحة أوسع تمتد للمجتمع كله ، ووفقا لشروط جادة وموضوعية تؤسس للمستقبل .