أكبر عملية جراحية جغرافية في التاريخ الحديث، تعرض لها أهل النوبة، بعد حرمانهم من أراضيهم الزراعية وتهجيرهم إلى جبال كوم امبو، ورغم التضحيات من أجل الوطن.. مازالوا يعانون، ومازلت أحلامهم مدفونة. وقال الشيخ وحيد محمد يونس، الباحث فى الشئون النوبية والسودانية والإفريقية، بقرية غرب أسوان، إن أزمة أبناء النوبة تمثل جراحا تمتد زمنيا إلى القرن الماضي، وتحتاج إلى اعتراف من الدولة، بعدما أدت إلى هجرة النوبيين من منطقة أرض النوبة إلى أسوان حتى جزيرة "صاى" جنوب حلفا بمقدار 60 ألف كم، مشيرا إلى أن هذه الكتلة البشرية تأثرت بغرق قراهم وانتقلوا جنوبا إلى السودان وشمالا إلى القاهرة وتحدثوا النوبية على اختلاف لهجاتها (الدونقلاوية – الحلفاوية – الفاديجية). يشير يونس، إلى أن النوبيين شعروا بالغبن والظلم من هذا النقل، وأنهم "زائدين عن الحاجة" ولديهم شعور "عزيز قوم ذل"، لأن من استفاد بخزان أسوان الذي دفع النوبيون أراضيهم وبيوتهم أسفله، فئة قليلة من الإقطاعيين مثلوا 1% من الشعب المصري فى القرن 20، وهم الذين زرعوا القطن والقصب، وهما المحصولان الاقتصاديان آنذاك، وصدروه إلى إنجلترا، فاغتنى هؤلاء الإقطاعيين على حساب الشعب المصري عامة والنوبة خصوصا. أضاف يونس أن هذا الخزان ومراحله أدت إلى إفقار النوبيين نتيجة لفقدانهم أراضيهم الزراعية ومواشيهم، ونخيل البلح، أي انعزالهم عن بيئة زراعية كاملة كانت تكفل للنوبيين المعيشة فى رفاهية، مما اضطرهم للعمل في وظائف لا تدر عليهم إلا القليل مما ترتب عليه معيشتهم فى فقر مدقع على جوانب المدن المصرية الغنية، وفى أحياء بولاق أبو العلا وعابدين حول القصور الملكية والطبقات الثرية فى الزمالك، الأمر الذي أدى إلى تدهور أحوالهم المعيشية والعمل فى مهن خدمية يشعر فيها أبناء النوبة بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. ويرى يونس أن النوبة تحتاج إلى إعادة اعتبار معنوي لأهلها، مؤكدا أن لهم عدة مطالب من الرئيس الجديد لإعادة اعتبارهم بعد كل هذا الظلم والمعاناة في التهجير والنقل، على مر العصور وصولا لعهد مبارك الذي دفع بالمستثمرين إلى النوبة فنهبوا جميع ثرواتها وسرقوها، فلم يكن اهتمام مبارك بالنوبة من أجل النوبيين، ولكن من أجل سرقتها، وتملك آلاف الأفدنة، ونهب ثرواتها من الرخام والذهب والجرانيت والإسمنت لصالح الرأسمالية المتوحشة فى شمال الوادي. ويشير سليم إلى أن كل قرية في مصر لها موقعها الجغرافي إلا قرى بلاد النوبة حيث انتقلت من موقعها الجغرافي والتاريخي الذي دفن فيه الأجداد، لافتا إلى أن قرى نصر النوبة طاردة للشباب نظرا لغياب فرص العمل، وغياب الاستثمارات. ونفى سليم استبعاد النوبيين من تولى المناصب القيادية بالدولة، مؤكدا أن الأزمة تكمن فى استبعاد الشباب بشكل عام وسيطرة كبار السن على المصالح والهيئات الحكومية منذ غلق باب التعيين من الثمانينات، مطالبا بأهمية ضخ دماء جديدة فى هذه المؤسسات تحمل أفكار الشباب المبدعة. بينما طالبت نجلاء أبو المجد، عضو الهيئة العليا لحزب المصريين الأحرار، مسئول الملف النوبي بالحزب وعضو تنسيقية العمل الجماهيري لنساء مصر، بحق عودة النوبيين ل 44 قرية حول بحيرة السد العالي بنفس السمات والمعمار والطراز التراثى قبل التهجير. وأشارت أبو المجد إلى مدة العودة التي أقرت في الدستور الجديد بعشر سنوات، مؤكدة على أهمية تفعيل المادة 236 من الدستور لتنمية الأماكن الحدودية بشكل عام كالنوبة وسيناء ومطروح. أضافت أبو المجد أن من المطالب أيضا إنشاء مجلس أعلى للغات المحلية للحفاظ على اللغة النوبية من الاندثار، وكذلك اللغة الأمازيغية والقبطية والبيجاوية التى يتحدث بها أهل حلايب وشلاتين، مؤكدة أن هذا المطلب يتوافق مع نص المادة (50) الذي احترم التعددية الثقافية لمصر، وحماية هذه اللغات من الاندثار والطمس، مشيرة إلى أن معهد الدراسات الإفريقية يقوم بتدريس لغات السواحيلي والإريتري والهاوسا بالقاهرة، ولا نجد من يحافظ على لغة النوبة الأصلية. وطالبت أبو المجد الرئيس الجديد بتعيين نائبين في البرلمان القادم من النوبيين أحدهما لقبائل الفاديجا والآخر للكنوز أسوة بالكوتة التى حصلت عليها المرأة والأقباط وذوى الاحتياجات الخاصة. وأكدت نجلاء على أهمية القضاء على العنصرية والتمييز ضد النوبيين وأصحاب البشرة السمراء في الظهور كمقدمي برامج على شاشات التليفزيون المصري، قائلة "عايزة أشوف مذيعة سمراء على تليفزيون بلدى". وترى نجلاءأن الخدمات الصحية منهارة فى نصر النوبة، مؤكدة على أهمية بناء مركز لعلاج السموم نظرا لانتشار حالات الوفاة نتيجة اللدغ من العقارب والثعابين، ووفاة الضحية أثناء السفر به من النوبة إلى الأقصر أو القاهرة. وقال محمد عبده حسون، رئيس منطقة الفاديجا النوبية، إن أبرز مطالب النوبيين هو بناء بيوت المهجرين الذين وصل عدد منازلهم إلى 5200 منزل، فمع الهجرة الكبرى عام1963 بسبب بناء السد العالي تم تهجير النوبيين خارج بلادهم إلى هضبة كوم امبو على امتداد50 كيلو مترا بعد أن كانوا على امتداد600 كيلو متر، وقسمت الدولة النوبيين إلي فئتين: فئة المقيمين بالنوبة القديمة وأعطتهم بيوتا في القرى الجديدة وفئة أخرى هم المغتربون وأجلت بناء منازل لهم ولم تبن لهم غير50% فقط من مساكنهم، ومن ثم تتلخص مطالب النوبيين في سرعة بناء مساكن للمغتربين وتسليمها لهم خلال خطة خمسية. ويرى حسون، ضرورة تخصيص دائرة انتخابية نوبية مستقلة كمثل التي كانت موجودة في الستينات لضمان وصول أصوات نوبية معبرة عن القضية فى مجلس النواب القادم، مشيرا إلى عدم دعوة النوبيين للحوار المجتمعي الخاص بإصدار قانون مجلس النواب وقانون مباشرة الحقوق السياسية، ولم يتم الاستماع إلى آرائهم ومطالبهم. أضاف حسون أن الحكومة المصرية تساوم النوبيين الآن بين الحفاظ على أرواحهم وبين منحهم أموالا لإحلال وتجديد المنازل النوبية التى تم تهجيرهم منها بعد بناء السد، وعرفت بمنطقة "وادى الجن" وهى منطقة جبلية صحراوية تمتد من "بلانا وكلابشة إلى مركز كوم امبو"، ونظرا لغياب دراسات وتخطيط الدولة بطبيعة تربتها وجغرافية المنطقة، ظهرت التشققات بعد فترة على المبانى التى شيدتها الدولة للنوبيين، بسبب لغياب الصرف الصحى لفترات طويلة عن القرى وإدخاله منذ وقت قريب حيث تسربت مياه الصرف الصحي أسفل المنازل وأدت إلى تصدعها حتى أوشكت على الانهيار. وطالب حسون بأن يكون مركز نصر النوبة مستقلا إداريا وماليا عن مركز كوم امبو، وأن يكون لها ميزانية خاصة بها تساهم فى تطوير المنطقة وإنشاء مصانع وشركات تستوعب البطالة بين أبنائها. وتقول آيات عثمان، مؤسس منظمة "جنوبية حرة"، إن ضرب السياحة فى الفترة الأخيرة أدى إلى بطالة كبيرة بين الشباب النوبى الذي يعتمد على هذه المهنة، مما دفع كثير من النساء النوبيات إلى العمل بدلا من أزواجهن للإنفاق على أسرهن، وقيامهن بالمشغولات اليدوية التى تشتهر بها النوبة، ولكن تواجه تلك السيدات أزمة في ترويج هذه المنتجات وبيعها نظرا لغياب الوفود السياحية. أضافت عثمان أن البطالة أثرت على الأسر النوبية، وزادت من حالات العنف ضد النساء نظرا للضغوط الاقتصادية الواقعة على الأزواج والتى تدفعهم إلى السفر للقاهرة للعمل بأي مهنة لسد احتياجات الأسرة، مشيرة أن الفتاة النوبية محرومة من استكمال التعليم الجامعي، واقتصار الأسرة على حصولها على شهادة متوسطة، نظرا لبعد الكليات ومحدوديتها فى عدة كليات بجامعة جنوب الوادى بأسوان، مشيرة إلى أن أغلب عمالة النساء النوبيات تتركز فى التدريس والتمريض بالوحدات الصحية بقرى النوبة. وتساءلت عثمان عن دعم اليونسكو السنوى المقدم لمصر والمقدر بملايين الدولارت من أجل تعمير النوبة باعتبارها منطقة حضارية تراثية، فالنوبة تم تنيمتها على نفقة أهلها، ولم تنفق الحكومة جنيها واحدا لتعميرها، أو إقامة مشروعات تنموية بها منذ 50 عاما بعد التهجير. أضافت أن قرى النوبة تخدمها مستشفى واحدة فقط هى " نصر النوبة العام" تعانى من إهمال وسوء الخدمات الصحية المقدمة بها كأغلب المستشفيات الحكومية، واغلب النوبيين يضطرون للسفر إلى أسيوطوالقاهرة للعلاج.