هو محمد بن محمد بن طرفان بن أوزلغ الفارابي الملقب بأبي نصر،المولود في عام 259 ه في بلدة وسيج قرب فاراب على نهر سيحون في بلاد الترك، والمتوفى بدمشق في عام 339ه بعد حياة حافلة ألف فيها عديدًا من المصنفات في مختلف العلوم التي كانت معروفة في عصره من الطبيعيات إلى الإلهيات، وعلوم الدين كالفقه والكلام، إلى الرياضيات ومشتقاتها، إلى الفلك والمنطق والاجتماع والموسيقى ، كما يعتبر الفارابي من أهم شرَّاح أرسطو، كما شرح غيره ككتاب النفس لإسكندر الأفروديسي وكتاب المجسطي لبطولومايوس. يقول الفارابي " رأيت أكثر أهل زماننا قد تحاضُّوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادعوا أنَّ بين الحكيمين المقدمين المبرزين اختلافًا في إثبات المبدع الأول وفي وجود الأسباب منه، وفي أمر النفس والعقل وفي المجازات على الأفعال خيرها وشرها وفي كثير من الأمور المدنية و الخلقية والمنطقية أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأييهما والإبانة عما يدل عليه فحوى قوليهما ليظهر الاتفاق بين ما كانا يعتقدانه ويزول الشك والارتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما، وأبين مواضع الظنون ومداخل الشكوك في مقالاتهما؛ لأنَّ ذلك من أهم ما يقصد بيانه وأنفع ما يراد شرحه وإيضاحه". في كتابه المشهور الجمع بين رأيي الحكيمين يتناول الفارابي الفلسفة وما يتفرع عنها وكيفية التدرج فيها وترتيب العلوم المتفرعة عنها ثم يعمد إلى إيجاز كتب أفلاطون وتلخيص فلسفته في قسم خاص من الكتاب ثم يفعل نفس الشيء مع كتب أرسطو؛ ليلخص مذهبه محاولا التوفيق بين التعليمين، وخاصة ما يتعلق منها بقدم الجواهر" أأعيان الجواهر أقدم أم مثلها؟ يعني أيهما أقدم في الوجود : الجسم المادي في عالمنا كما يقول أرسطو أم صورة الجسم مجردة من المادة في الملأ الأعلى؟" كيف يكون الإبصار؟ أ بانفعال في البصر، كما يقول أرسطو، أم بخروج شيء يحيط بالأجسام كما يقول أفلاطون؟ أيكون البصر بانعكاس النور عن الأجسام إلى العين أم بخروج نور من العين إلى الأجسام؟ النفس، الطبع أشد تملكًا للإنسان أم العادة؟ العالم قديم كما يقول أرسطو أم محدث كما يقول أفلاطون؟ وهل له صانع هو علته الفاعلة أم لا؟ الفيض، الثواب والعقاب" ويخلص الفارابي إلى أن الحكيمين لم يناقضا بعضهما، وهذا غير دقيق على نحو ما فالتناقض بين ما قال به أفلاطون وما قال به أرسطو واضح لكل ذي عينين، ولكن البعض يرجع ذلك إلى أن الفارابي لم يكن قد اطلع على آراء أرسطو كاملة، أو أن كثيرا مما اطلع عليه الفارابي من آراء أرسطو كان قد شوه من قبل أتباع المذهب الإسكندراني، كذلك فإن ما خلص إليه الرجل من آراء أفلاطون لم يخل من الأدران والشوائب. وكان الفارابي قد أكثر من الاستشهاد بكتاب ( أثولوجيا) الذي كان يعتقد اعتقادًا جازمًا أنَّه لأرسطو، والحقيقة أنَّ الكتاب ليس سوى مقطعات مفردة من كتاب التاسوعات لأفلوطين. لقد بنى الفارابي مذهبه الانتقالي التوفيقي على كثير مما تبين خطؤه بعد ذلك، ولكنه لم يتصور وقوع التناقض عند أرسطو بل آمن حرصا منه على وحدة الفلسفة وعدم تبدلها بتبدل الزمان، والمكان واعتقاده بوحدة العقل واتفاق الناس فيه، وان الحكمة والشريعة واحدة، لا تخالف الدين. لذلك رأى الفارابي أن يحاول تطبيق مذهب الحكيمين على عقائد الدين الإسلامي وتعاليمه. ويبدو أن مسألة التوفيق تلك كانت لها سوابق على محاولات الفارابي، فقد " ظهرت في المدرسة الإسكندرانية بوجه خاص، وفي المدارس اليونانية المتأخرة بوجه عام. فقد لاحظ فورفوريوس أنَّه يوجد في مؤلفات أستاذه أفلوطين خلطًا بين آراء الرواقيين والمشائين، فوضع عدة مؤلفات للتوفيق بين أفلاطون وأرسطو، وسار على منهجه عدد غير قليل من رجال مدرسة الإسكندرية". ويقول الدكتور عثمان أمين عن الناحية التوفيقية عند الفارابي " فيلسوف مسلم جمع بين مزيتين: الإخلاص للفلسفة والإيمان بالدين. وبهاتين المزيتين حاول أن يوفق بين لغتين، لغة العقل ولغة القلب، وهما عنده لغتان مفهومتان ضروريتان للإنسانية التي تريد أن تتخطى نفسها ساعية وراء الكمال، وكأن الفارابي قد جاء إلى العالم؛ ليؤدي رسالة جليلة خلاصتها أن الفلسفة والدين هما المعين الصافي للحياة الروحية التي يكون بها المجتمع الإنساني فاضلا، وبدونها يكون ضالا. فويل للمجتمع إذا تنكر للفلسفة أو الدين، وما أشقانا إذا طغت علينا المادة فخلت حياتنا من مشاغل الروح". ولكن هل وفِّق الفارابي فيما أراده من التوفيق بين العقل والوحي أو بين الدين والفلسفة؟ أغلب الظن أنَّه لم يوفق، على الرغم من محاولاته في حل مسألة الواحد وصدور العالم عنه وكيفية هذا الصدور، فلقد بقيت الشُّقَّة بعيدة جدًا بين الإله في تصورات أرسطو، وفي عقيدة الإسلام. لقد أجهد الفارابي نفسه في مسالة التوفيق تلك دون فائدة تذكر، ويبدو أنَّه كان مدفوعًا برغبة إنسانية تميل إلى الصيغ الوسطية، يبعد بعقله وروحه عن الزعم بتفرد دين أو مذهب أو فلسفة على ما سواها، برغم أنَّه عاش جل عمره في عصر انحطاط الدولة العباسية وتحللها بفعل فساد الحكم، وانغماس الخلفاء والأمراء في الترف واستفحال نفوذ الترك وتدخل النساء في أمور الحكم ، مما كان سببًا في اندلاع العديد من الثورات، والاضطرابات التي جعلت الفارابي ينأى بنفسه عن السياسة ويتفرغ للعلم والفلسفة فكان إنتاجه من التنوع والثراء بشكل قلما يوجد له نظير.