ما هو البديل الذي يقدمه الجابري لقراءة الفلسفة الإسلامية بعيدا عن مشروع التمركز حول الذات الأوروبية ومنهجها الفيلولوجي الذي يصمه بالطفولي؟. قد يكون من المفيد قبل أن نجيب على هذا السؤال أن نذكر بأن الجابري يرى أن الفلسفة الإسلامية من أكثر الحقول المعرفية المظلومة في الفكر العربي، سواء من قبلنا نحن أو من قبل "الآخر"، الذي يبحث عن ذاته فينا، أما نحن فقد فصلنا الفلسفة عن واقعها. إن خزانة الكتب الفلسفية التي حررت تبدو كأنها معلقة في الهواء لا يربطها بالأرض شيء، إنها جرد ساذج للأفكار الفلسفية، تبدو معها الفلسفة كأنها سلسلة من حلقات متشابهة مكررة. إن الفارابي وابن رشد وابن سينا والغزالي والسهروردي إن اعتمدنا على قراءة المضمون المعرفي لهم فقط، فإن آفاق التأريخ للفلسفة الإسلامية يكون منحسرا ضيقا. صحيح قد ندقق أكثر في إنتاج فيلسوف ما، إلا أننا مع ذلك لن نبلغ المرتبة التي نجعل من خلالها الفلسفة تنافح وتناضل كما كانت في الماضي –دون وعي منا نحن الذين نقرأ هذا الفكر الفلسفي- بل وقبل ذلك لن نتلمس أي جدوى من دراسة هذا الفكر. أما الآخر فقد عمل على تفكيك الفلسفة الإسلامية، و النظر إليها كفروع للفلسفة اليونانية، من هنا فإن الدور المنوط بالمستشرق الذي يعمل على "تأريخ" فكرنا الفلسفي هو محاولة نسبة كل فكرة لصاحبها، وإن استشعر بصمة إبداعية في الفيلسوف المسلم، تحدث عن تشويه للفكر الأصل وسوء الفهم. في الواقع لا يختلف الجابري مع المستشرقين، بل وفقهائنا الذين رأوا في الفلسفة الإسلامية "بضاعة دخيلة"، إن الفلسفة الإسلامية هي الفكر اليوناني بحروف عربية، لكن فرق كبير بين الفهم الذي قدمه الفلاسفة العرب للفلسفة اليونانية، والفهم الذي كونه الفلاسفة اليونان لأنفسهم عن فكرهم، هذا إن تجاهلنا الاختلاف الكبير بين الأسس الثابتة لكل من الفكر اليوناني والعربي؛ الأول ثنائي القيم، أما الثاني فثلاثي القيم، إن الفلسفة اليونانية تقوم على مبدأ عدم التناقض أو الثالث المرفوع، ويتحدثون إما عن وجود أو عدم، سكون أو حركة.. إلخ، بينما الفلاسفة العرب أضافوا إلى الوجود العدم شيئية العدم، وإلى الحركة والسكون ما يسمى بسكون الاعتماد. إن تقديم قراءة جديدة للفلسفة الإسلامية حسب رؤية الجابري تتطلب الانتباه لمحدد آخر في الفلسفة الإسلامية، إنه المضمون الأيديولوجي الذي كان يحدد طريقة الفهم العربي للفلسفة اليونانية، أي الوظائف السياسية والاجتماعية التي كان ينافح لأجلها الفكر الفلسفي فتاريخ الفلسفة في الإسلام تاريخ إيديولوجيا. إن التفريق بين المحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي للفكر الفلسفي الإسلامي رؤية تنبع من ضرورة إعادة الاعتبار إلى الفلسفة، باعتبارها لم تقدم جديدا من حيث محتواها، بل إنها مجرد قراءة عربية للفلسفة اليونانية، أما المتحرك فيها فهو مضمونها الإيديولوجي، أي القضايا الاجتماعية والسياسية التي انخرطت وناضلت لأجلها.. إذا إلى هذا الجانب من الفلسفة يجب أن ننظر، وفيه فقط يجب أن نبحث عن المتحول والدينامي لنؤرخه. على سبيل المثال انتبه كل من الفارابي و ابن سينا لما في كتاب "أثولوجيا" المنسوب لأرسطو من الطعون، لكن نسبة الكتاب لأرسطو كانت تخدم مشاغل الفلاسفة الإيديولوجية، من أجل ذلك غضوا الطرف عن ما فيها من تناقض بنسبته لأرسطو، إن الغاية من تجاوز هذه المطب لدى الفارابي هو "الجمع بين الحكيمين". طبعا ليس المشروع بالهين، فالفكر الفلسفي فكر مقطر، والفلاسفة كانوا يعتزون بتقطير خطابهم من أي ذكر للواقع المادي، أو ربط فكرهم به بشكل مباشر، من هنا صعوبة إدراك القضايا التي كان يستوحيها ويستحضرها الفلاسفة وهم يقدمون رؤاهم الفكرية، ألم يتحدث الفارابي مثلا عن العقل المستفاد، ورآه بأنه أرقى العقول؟ وهذا العقل هو عقل "بريء من المادة" كما يقول هو نفسه، إنه ذلك العقل الذي اتصل مباشرة بالعقل العاشر الفعال تبعا لنظريته الميتافيزيقية الفيضية. عادل الطاهري كاتب جزائري