حدق شعث في ملامحي برهة، فأنكرني، وكأنه لا يعرفني ولا أعرفه، ثم قال: دعك عني يا رجل، دعك عني. لم أبرح مكاني قيد شبر، أشاح بوجهه عني؛ والتفت، فجئته عن يمينه منشدًا: فمنك البداء ومنك الغير ومنك الرّياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لنا إنّه قد كفر فهبنا أطعناك في قتله وقاتله عندنا من أمر فالتفت؛ فجئته عن يساره وقلت قولها: “اقتلوا نعثلًا فقد كفر”؛ فالتفت إلي وقد غلت الدماء في عروقه، ثم دفعني بقوة في صدري، فاختل توازني، ووقعت مغشيًا علي. جاء القوم فحملوني، أدخلوني خيمة فسيحة، ثم صبوا فوق رأسي ماءً باردًا، وجاء أحدهم بعشب لاذع الرائحة، فرك به أنفي، فقمت عاطسًا؛ فشمتني القوم وهم يتهامسون ضحكًا: يرحمك الله. فقلت بصوت متهدج: أهذا كرم الضيف يا سيد القوم ..؟ فقال: وعلى الضيف أن يستأذن ثلاثًا، فإما أن يؤذن؛ وإلا رجع. فقلت: عابر سبيل، أنهكه الجوع. فصاح: اعقروا له الجمل الأصهب. فصحت بحنق جارف: ومن يحمل وزر من عُقروا يوم الجمل الأصفر؟ فقال: ثكلتك أمك يا عدو نفسه، الفتنة نائمة، لعنك الله، ولعن من أيقظها. فقلت متجاهلًا تحذيره، لكني سمعت قول قائل يقول: والله لو ظفرنا لافتتنّا ما خلّى الزّبير بين طلحة والأمر، ولا خلّى طلحة بين الزّبير والأمر. فقال الشيخ وقد أبرقت عيناه: وأيم الله لو زدت حرفًا؛ لقطعت عنقك. فقلت وقد واتتني شجاعة متهور: أبالموت تخوفني يا ابن الطلقاء. تحسست رقبتي فزعًا، ورحت في عتمتي أحاور غرابًا ألثغ، يضحك فيتراءى كخفاش، ثم يعود غرابًا أفحم، قلت: علمني يا غراب، كما علمتني من قبل كيف أواري سوءة أخي. نعب الغراب بحكمة بالغة: كيف تطالب من علمك فنون الموت، أن يعلمك فنون الحياة؟! ****** رفضت أمي مجرد التفكير في أن أتزوج ببنت الشيخ الوقور، والتي راحت ابتسامتها العذبة تفرض نفسها على أحلامي، العفيف منها وغير العفيف، وقالت أمي: “ابعد عن الشر وغني له يا بني، إحنا مش ناقصين مشكلات مع الناس إياهم”. يا أمي الشيخ قد تغير تفكيره، ولا أظن أن له مشكلات مع الأمن هذه الأيام، فهو إمام الجامع الكبير، ولا بد أن يكون الأمن قد وافق وبصم على هذا. حلت الطامة الكبرى بساحتنا؛ وذلك حين نزل أخي محمد من بلاد الحرمين، تلك البلاد التي استوطنها لأكثر من عشرين سنه، يغوص في آبار النفط أعوامًا، ثم يأتي أيامًا؛ ليشتري فيلا هنا وفيلا هناك، ويعود حتى نفقد الأمل في رجوعه، وهكذا. لكنه عاد هذه المرة مقررًا ألا يعود ثانية، عاد وقد لفحته الصحراء بنزلة وهابية قاحلة مزمنة، نزلة لم يسلم منها ابنه عبد الله، الذي رزق به أخي بعد عشر سنين من زواجه من ابنة عمه، وقلت في نفسي: ما ظنته أمي بعيدًا عنا، أصبح في دارنا. أما ابنة عمي زوجه أخي، فلم أرها منذ وصولها إلا مرة عابرة من وراء حجاب؛ فسلمت، وحمدت الله على سلامتهم، ولم أخاطبها بعد ذلك: ” فالحمو الموت الحمو الموت”. عبد الله ابن أخي يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا تقريبًا، منتفخ كبرميل قار، تبعثرت في خده، شعيرات متناثرة بشكل عشوائي، متسعود اللسان والهيئة والملبس، شره لكل أنواع الطعام. ”شو هذي السيارة الخايسة يا عمي” اصطحبته هو وابنتيّ أختي، في سيارتي “الخايسة” -على حد تعبيره- في جولة ترفيهية في أرجاء القاهرة. كل شيء في نظر عبد الله بدا “خايسًا”؛ الطرقات خايسة، المباني خايسة، المتحف أصنام وكفر “خايس”، فاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، يسكنون فيه،”والمول خايس”، والسينما التي كادت أن تبكي سها وأختها؛ كي ندخلها، خايسة، نظرت سها لعبد الله وقالت: “والله ما في حد خايس إلا أنت يا عبد الله “. رطن عبد الله قائلًا: “شو شو، والله بعطيك شف على ويهك”. بعد محاولات مضنيه ووعود بألا نخبر أبواه، وافق عبد الله على دخول السينما معنا، وخرج منها فرحًا، وإن حاول ألا يكشف لنا ذلك. تعلق بي عبد الله إلى أقصى حد؛ فعلى مدار شهرين ونصف تقريبًا، كنت بالنسبة له طوق نجاة، كنت بالنسبة له بابًا من أبواب الحرية المباحة، محاولًا ما استطعت تنقية رئتيه من رياح السموم. وكنت أشعر من آن لآخر أنه يود أن يخبرني بسر جاثِ فوق صدره، ثم يمتنع. أرغمته أن يذهب إلى “الجيم”؛ ليخفف من وزنه، فوافق مكرهًا إرضاءً لي، واصطحبته ذات مرة إلى المقهى، وجلست ألعب الشطرنج مع أحد الأصدقاء إلى أن تكتمل الشلة، فصاح محذرًا كلانا: “من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه” فضحك صديقي وقال مستحلفًا: “والنبي يا عبد الله سبني أركز ” فقال عبد الله : قل لا اله إلا الله، ولا تقل والنبي، فمن حلف بغير الله فقد أشرك. ولما أقبلت علينا غادة مدت يدها بتلقائية وصافحتنا جميعًا؛ فامتنع عبد الله ” لأن يضرب أحدكم بمخيط في رأسه أحب إليه من أن يمس امرأة لا تحل له” تبسمت الفتاة، وتساءلت في سخرية: “إيه دا يا جماعة، جاي مع مين طيب؟ “. لكن عبد الله أخبرني عبر الهاتف: أن أمه بعدما أخبرتها الصغيرة سها بدخولنا السينما، وبعدما أخبرها وهو تحت كرسي الاعتراف لا فوقه، بالشطرنج والفتاة، إنها قالت له معنفة : “عمك تالف، وهيكون سبب في دخولك النار”، وحذرته من الاتصال بي أو الخروج معي، وأقسم عليّ الولد ألا أخبر أحدًا بالأمر، وقال: “حتى نينة يا عمي، لا تحاكيها ولا تسولف معها بها الموضوع” واحترمت رغبته ولم أحدث أحدًا، وظننت حينها أن هذا هو السر الذي كان يكتمه. ****** كنت قد اعتذرت لجوليا عن الموعد، وانشغلت طيلة ثلاث شهور تقريبًا، بعد وصول أخي وأسرته، ولم ألتق بها أو بهوانغ، وكانت قد قبلت اعتذاري، ببعض غيظ تبدى في صوتها، وقالت: كانت فرصة عظيمة لا تتكرر كثيرًا، سألتها أي فرصة هي، قالت: لعلي أخبرك بها غدًا إذا التقينا، أنهيت المكالمة، وقمت بالاتصال بهوانغ أستفسر منها عن الأمر، راوغت هوانغ كثيرًا، ولم أفهم منها شيئًا يذكر، وإن بدا الضيق في صوتها؛ وقلت في نفسي إن غدًا لناظره قريب بسيارتها “الهامر” الصفراء توقفت جوليا أمام الكافية، وقالت عبر شرفة سيارتها: تعالى اركب هنا، ضاربة بيدها على المقعد المجاور لها. ألن نجلس هنا؟ وأشرت “للكافيه”؛ فتبسمت قائلة: اركب بجواري، لا تقلق، لن أختطفك. قفزت بجوارها؛ فانطلقت بقوة، وقالت معربدة: لي أيضًا في الرجال، شريطة أن يكونوا في مثل وسامتك، والتنوع مطلوب؛ لكسر الملل، أليس كذلك ؟ أبى عقلي الباطن هضم عبارتها، وقلت قاطعًا عليها طريق التمادي: أهذا هو الأمر الذي اتصلت بي من أجله! قالت:” صبرًا “، أخفضت صوت الاسطوانة الصاخبة، ثم قررت أن تغلقها نهائيًا، عاد الوجه التلمودي إلى حالته، أضافت: بحث ” هوانغ” عن حال المرأة في الإسلام ... قلت: ما به ؟ ألم ينشر بعد؟ قالت: لا، لقد أوقفت نشره عقب نقاشنا السابق، مدت يدها متعمدة أن يمس ساعدها فخدي، بينما هي تفتح درج السيارة، قالت: خذ البحث، واقرأه مرة أخرى على مهل، واكتب لي رأيك مفصلًا. فقلت بكبرياء ممزوج بوقاحة: عفوًا، من أنتِ حتى أكتب لك رأيي، ومن تمثلين؟ فقالت بثقة: أنا جوليا. اسمع، وجدت فيك باحثًا جيدًا يستحق أن ينضم لمركزنا، ورشحتك للبروفسير، وطلبت منك أن تأتي في موعد سابق كي يراك، فهو لا يأتي إلى مصر إلا مرة تقريبًا كل عام، ولا يمكث فيها إلا أيامًا. لم يزد كلامها في صدري إلا غيظًا؛ فقلت: ومن البروفسير هذا ...؟ ضربت جوليا بقوة على مقود السيارة، وقالت: لا تكن مستفزًا. فقلت بهدوء مكظوم: بإمكانك أن توقفي السيارة ؛ فأنا أود أن أنزل. تبسمت جوليا بمكر تجيده النساء أيما إجادة، وقالت: “سوري” لنهدأ قليلًا، ثم بفرض أنك تكره اليهود جميعًا، وبفرض أن هذه الكراهية كانت لها جذور تاريخية، لم يكن لي ولا لك يد فيها، وبفرض أنك تبغض إسرائيل الآن لأنها كذا وكذا، فهل هو واجب عليك أن تكره جوليا شخصيًا؛ لكونها يهودية ؟ ثم تسحب هذه الكراهية على كل تصرفاتها وأقوالها، حتى وإن جاءت تصرفاتها متماشية مع ما تؤمن به من قيم وتعتقد، أين العدالة إذن يا.. ترددت : هل أقول يا صديقي ...؟ فقلت: إن المقدمات الصحيحة، لا تنتج دائمًا نتائج على الدرجة ذاتها من الصحة، أستطيع، بكل بساطة، أن أعيد كلامك، حرفيًا، باستبدال اسمي باسمك، وستقولين: ومن قال: إني أكرهك؟ أو لعلك تقولين: أووه، إنني أكرهك بالفعل. فإن كانت الأولى، فنحن سيان، وإن كانت الثانية فنحن سيان أيضًا، لقد تحققت المساواة إذن. ومع ذلك، لا أنكر عليك قولك بالكلية، شيء ما، لا إرادي، هنا، وأشرت إلى قلبي، وسكت. فقالت جوليا بذكاء عنكبوتي: ما تقوم به يا صديقي حيل دفاعية، إن داخلك ليس عدوانيًا، أنت تحاول أن تخفي قلقًا هنا، كفها الأيمن ممتدٌ، يكاد يمس قلبي، تساورك بعض الشكوك، ربما تبددها الأيام. توقفت “جوليا” بالسيارة، وقد عادت لمجونها الأول: الشيء الذي هنا، هو الشغف، هيا انزل لقد وصلنا. ******* في بهو الفندق كان في انتظارنا مجموعة من أصدقاء جوليا، وبعض العاملين معها في المركز، كانت هوانغ تجلس بينهم وبيدها كأس صغير، وبجوارها يجلس صمويل سعد، وإن بدا الصليب المتدلي فوق قميصه الأسود فضيًا هذه المرة، دار بين الجمع حوار ثري، وإن امتعض صمويل بغيظ، من قول أحدهم: إن المسيح كان ضمن جماعة الزيلوت المناوئة للحكم الروماني، وأنه كان على علم بمجموعة “السيكاري” الذين كانوا يطعنون الرومانيين بالخناجر؛ فعقب صمويل على حديثه قائلًا: “ناقص تقول إنه كان منضمًا للجناح العسكري لحركة حماس، أو لحزب الله الشيعي”. بينما فاجئني الشخص نفسه، الذي أطلق عليه صمويل اسم “مستر” مؤامرة بقوله: إن ما حدث في العصر الحديث من تهجير اليهود إلى أرض فلسطين، أرض الميعاد، وتآمر الصهيونية العالمية بإزكاء الحروب، ودفع اليهود إلى الهجرة قصرًا، حدث قديمًا على يد كعب الأحبار الذي كان يهوديًا ثم أسلم، ودفع بالخليفة عمر بن الخطاب، إلى تهجيرهم إلى بيت المقدس، تحفزت جوليا للرد على ما يخصها، وتحفزت للرد على ما يخصني، لكنه أشار إلينا، ثم تمهل قليلًا، ثم قال: أليس غريبًا أن يهمل أبو بكر الأمر المنسوب زورًا لمحمد بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ثم يهمله بن الخطاب ولا يتذكره إلا بعد إسلام كعب الأحبار، في النفس شيء ما، ثم قال مستدركًا: بكل صدق لا أطعن في نوايا الخليفة عمر، لكنه بلا شك وقع فريسة كعب الأحبار وأساطيره، إنها الصهيونية التاريخية إن جاز التعبير. اعترضت جوليا بحدة على ما يخصها، تخفي كثيرًا وتعلن قليلًا، واعترضت على ما يخصني، قائلًا: ألم يقتل اليهود مظهر بن رافع الحارثي، كما أن سلسلة الخيانات والمؤامرات من قبلهم لم تنته. نظر إلي مستر مؤامرة قائلًا: ألم يُتَهم اليهود من قبل في مقتل عبد الله بن سهل في خيبر، ولما لم تثبت التهمة في حقهم يقينًا، جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ديته عليهم، لأنه قتل بحضرتهم، ولم يرحلهم، ولو كان يريد ترحيلهم لما عصاه أصحابه؛ ولكانت الفرصة سانحة له وقتئذ. رشف من كوب كان أمامه، أخذ نفسًا عميقًا، لاعنًا حظر التدخين المفروض، ثم قال: راجع الأحاديث المنسوبة للنبي في فضل الشام وأهلها، وفضل بيت المقدس، حتى أنه لا تقوم الساعة حتى تزف الكعبة إلى الصخرة زف العروس، ووالله لا أدري ما دخل الصخرة في الدين؟ ختمت امرأة لبنانية في العقد الخامس من عمرها، الحوار قبيل مغادرتنا، بقولها: إذا كنا جميعًا متفقين على شناعة جريمة سفك الدماء، وحرمة إزهاق روح إنسان، فمن أين تتدفق شلالات الدماء ؟! ومن منا “دراكولا” إذن ؟ نظر بعضنا إلى بعض، ولم نعقب.