بعيداً عن السياسة وقريباً من الدين والتاريخ، كنت أحاول أن أجول بعقلى المرهق بمحن وإحن السياسة «من زرع الإحن (الحقد) حصد المِحن» وبعيداً عن استجدائى الدائم للكياسة فى السياسة.. بعيداً عن السياسة، وذبول الساسة فى بلدى، كنت أحاول أن أتجه للدين والتاريخ. سألنى عقلى: أليس من أسس اتخاذ القرار السياسى مراعاة الخلفية الدينية والتاريخية لهؤلاء البشر الذين نحكمهم. وقبل أن أجاوب، سألنى عقلى مرة ثانية: هل تصحبنى فى جولة آخذك بها بعيداً عن السياسة وقريباً من الدين والتاريخ؟ تذكر يوم وقفت معك تحت شمس يوليو الحارقة فى العام 2005، وكنت تقتل الوقت فى طابور الانتظار بتصفح المواقع الإلكترونية. تذكر ذلك الخبر الذى أعدت قراءته أكثر من خمس مرات عن الدعوة التى وجهت إلى الحكومات الإسلامية لتطبيق نظرية النبى يوسف لتحقيق النهضة، وأن هذه النظرية تتركز فى أمرين لا ثالث لهما تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغذاء وتوفير الأمن والحماية لمواطنيها. وأن مشروع «الإسلام الحضارى» الذى تتبناه لاستنهاض الشعوب الإسلامية لتحقيق التنمية يقوم على هذه النظرية. كان ذلك يوم الاثنين 25 يوليو 2005 فى افتتاح المؤتمر الثالث ل«الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل». يوسف الصديق ما أجمل قصة وسورة يوسف. «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ». يوسف المسجون قدم نظرية للتوازن الاقتصادى فى تفسيره رؤيا الملك. يوسف الذى كان فى غياهب السجون محبوساُ فى مصرعلى جرم لم يرتكبه، لم يتوان لحظة أو يتردد فى حماية البلد من الجوع وإرشاد عزيزها. خاف يوسف على بلد ليست مسقط رأسه، بل بيع فيها وهو غلام واشتراه عزيز مصر، وقال لزوجته ربى هذا الغلام ربما عندما يكبر يساعدنا فى أمور الحكم أو أن يكون لنا ابنا بالتبنى. لم يكتم نبى الله يوسف علماً وهبه الله له لم يترك عزيز مصر ولا أهلها حتى يأكلهم الجوع وتخرب الديار انتقاماً لحبسه ظلماً. لم يحرق البلد.. لم يكن يوسف يكره ظالمه الذى نشأ فى بيته، ولم يكن يوسف يكره الأرض التى أكل من خيراتها وظلمته. لبث فى السجن «حَتَّى حِينٍ» لله وسامح أخوته لله ورفعه الله وأعلى شأنه. ظُلم يوسف وسجن ولم يحرق مصر بسيف الجوع وقت ما أتته الفرصة لم يكره وعاش يوسف وعاشت مصر فى شبع وأمن. علم يوسف أن الانتقام هاوية وهلاك لا يشبعان. أخذنى عقلى فى جولته بعيداً.. وعذرى أنه «كفى حرقاً لمصر». ■ ■ ■ نهاية المطاف: «الهاوية والهلاك لا يشبعان وكذا عينا الانسان لا تشبعان» سفر الأمثال الإصحاح 27