في جلسة جمعتني مع صديق فلسطيني مقيم في بلد أوروبي ويحمل جنسيته، روى لي الصديق اللصيق بقضايا شعبه وأمته كيف زار مسقط رأسه في حيفا حيث وُلد قبل أكثر من سبعين عاماً، وحيث بيوت والده واعمامه واجداده. قال لي الصديق أن ضابط الجوازات الصهيوني على الحدود فوجئ أنه من مواليد حيفا، فسأله للتأكد من صحة ما قرأه "هل أنت من مواليد حيفا فعلاً"، فأجابه الصديق بحزم "وماذا قرأت في الجواز؟" سأله الضابط باحترام غير معهود من الصهاينة في تعامهلم مع الفلسطينيين "وما غرض الزيارة؟ أهي للسياحة أم لعمل تجاري" فأجابه الصديق من جديد وبلهجة أكثر حزماً: "أنا آت إلى وطني وإلى البيت الذي ولدت فيه". صمت الضابط وسلمه الجواز بسرعة وكأنه يريد انهاء "مشكلة". تعليق الصديق على هذه "المساجلة" السريعة هو شعوره بأن من بين الإسرائيليين العاديين من بات يشعر بنوع من القلق الوجودي والاحساس المتنامي بالذنب تجاه الفلسطيني المشرد من بيته وأملاكه وأرضه… لا يكتفي صديقنا بهذه الرواية بل يصف لنا مشهد مطعم في جبل الكرمل قرب حيفا، وهو الجبل الذي يطل على عكا وحتى على رأس الناقورة في جنوبلبنان. في هذا المطعم الكبير تجتمع المئات من العائلات الفلسطينية ليلاً، وبينهم شباب وشابات يتصرفون بثقة عالية بالنفس، وحتى بنوع من الاستهتار بالوجود الصهيوني المطبق على حياتهم، لا بل بشعور بأن هذه الأرض (فلسطين) ستعود حتما إلى أصحابها عاجلاً أم آجلاً.. فوجئ الصديق، بكل لقاءاته وتنقلاته، بهذه الروح الجديدة التي تغمر الكثير من عرب فلسطين 48، وأمتلكه احساس بالفرح لم يشعر به من قبل، لا بل قال لصديق هاتفه خلال وجوده في المطعم:"لا تصدق أنني اشعر كمن يحمله جناحان إلى الفضاء.. أشعر كما لو أنني أطير في حلم، لا لأنني أشعر أنني قريب من حيفا مكان ولادتي ومن ملاعب طفولتي فحسب، بل أيضاً لإحساس بالاعتزاز والفخر بأبناء شعبي وهم يتصرفون بهذا الإباء والشمم والثقة بالنفس…. يكمل صديقي حديثه، بالقول: سألت صديقاً لي منذ أيام الطفولة، وهو اليوم شخص لامع في محيطه.. ما تفسيرك لهذه الثقة المتزايدة بالنفس لدى الفلسطيني، وهذا الاكتئاب المتزايد لدى الاسرائيليين. أجابه الصديق المتجّذر في أرضه: انها حرب تموز 2006، يومها حصل انقلاب غريب في المزاج الفلسطيني، وفي المزاج الصهيوني معاً، فالفلسطيني بات اكثر ثقة بأنه سيستعيد حقوقه، والصهيوني بات أكثر قلقاً على مصيره ووجوده. الانطباع ذاته نقله لي صديق مقيم في الولاياتالمتحدة عن زوجته التي زارت مسقط رأسها في فلسطينالمحتلة عام 1948، وهي سيدة وطنية مثقفة، لكنها غير مسيّسة أو متأدلجة، قالت السيدة بعد زيارة استغرقت عدة أيام: لقد شعرت ان الاسرائيلي في فلسطين هو سائح ولكن باقامة طويلة… فهو يدرك انه لا بد من ان يعود من حيث أتى… هذان الحديثان اللذان سمعتهما خلال العُشر الأخير من شهر آذار/مارس أكدتا لي جملة المعاني والرموز التي احتشدت على مدى عقود في حياة فلسطين وكفاح شعبها في هذه الأيام، منذ معركة الكرامة في 21/3/1968 إلى يوم الأرض في 30/3/1976، إلى استشهاد القائدين الكبيرين الشيخ أحمد ياسين ود. وديع حداد في مثل هذه الأيام، إلى محاصرة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، إلى ملحمة جنين 2002 التي تجددت قبل أيام على يد الأبطال حمزة أبو الهيجا ومحمود أبو زينة ويزن جبارين مجسدين وحدة المقاومة والاستشهاد، إلى اختطاف المناضل الكبير أحمد سعادات والقائد الفتحاوي فؤاد الشوبكي إلى العديد من محطات العطاء والنضال. في هذين الحديثين يمكن لنا أن نفهم في يوم الأرض كيف أصبحت أرض الكرامة رمزاً لكرامة الأرض والوطن والامة. وبعد هذا كله يأتي جون كيري باتفاق اطار لا يكشف عن انحياز مروّع لجانب الظلم فقط، بل عن جهل مطلق بحقيقة شعب فلسطين الذي لم يتوقف كفاحه من أجل الحرية منذ أكثر من قرن، وهو مؤمن أنه سينال حتما ً حريته كما نالها شعب الجزائر بعد 130 عاماً من أبشع استعمار استيطاني وأكثرهم وحشية. انه منطق التاريخ… كما منطق "الأرض التي تقاتل دوماً مع أهلها"، كما يقول مثل عراقي شائع في البادية العراقية.