يبدو أنه قبل دخول الفرنساوية إلى مصر بسنوات ليست كثيرة كان السخط يعم البلاد المصرية بشكل كبير وكان حال البلاد والعباد لا يسر أحد ، ويبدو ايضا أنه وقبل "التدخل الفرنسي" كانت هناك حالة من مطالب التغيير وبداية ظهور نخبة حقيقية تسعى لصنع التغيير .. وتراوغ من قبل السلطة الحاكمة بمصالحها بين تأجيل وترغيب وترهيب .. فيروي لنا الجبرتي في أحداث عام 1208 هجري الموافق تقريبا 1793 م قصة حدثت في القاهرة ، حيث يؤكد أن أهالي من قرية بلبيس في الشرقية وفدوا إلى القاهرة يشكون محمد بك الألفي لأنه وأتباعه يظلمونهم ويطلبون منهم ماليس في استطاعتهم .. كانت الشكوى إلى "شيخ الأزهر" عبد الله الشرقاوي .. الرائع أن "شيخ الأزهر" عندما ابلغ أصحاب السلطة الفعلية أنذاك إبراهيم بك ومراد بك ولم يلتفتا إليه ولم يبديا اهتماما بأمره أرسل واستدعى المشايخ داخل الجامع الأزهر ! وأغلق الجامع وأمر المشايخ الناس أن يغلقوا الحوانيت والأسواق في دعوة "للعصيان المدني" وفي اليوم التالي اجتمع العامة وخلق كثير حسب ما يحكي الجبرتي أمام الجامع الأزهر وتبعوا المشايخ إلى منزل الشيخ السادات الذي كان قريبا من منزل إبراهيم بك وكأن المظاهرة مقصود أن تكون قرب منزل الحكام التنفيذي للبلاد .. اضطر ابراهيم بك وقتها ارسال مندوب عنه ليتكلم مع الناس فكان قول الناس واضحا كما يقول الجبرتي قالوا له : نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها .. كان المطلب ببساطة "عيش" "حرية" "عدالة اجتماعية" وكان رد السلطة وقتها واضحا أيضا يقول الجبرتي أن رسول ابراهيم بك قال لهم : لا يمكن الإجابة الى هذا كله فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات .. تحدث رسول السلطة عن النفقات وخزينة الدولة وماتحتاجه السلطة وعن ضيق المعيشة .. وكان الزمان يتكرر كان رد الشعب عجيبا فيقول الجبرتي أن الناس ردوا مجعمين قائلين : هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس وما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك والأمير يكون أميراً بالإعطاء لا بالأخذ .. فبدلا من الإنفاق على ملذاتكم وصفقاتكم وشراء المماليك الذين يوالونكم خففوا عنا أعباء الحياة .. انصرف الرسول على أمل الرد على مطالب المعتصمين الذين احتموا بمشيخة الأزهر فوجدوها حصنا منيعا يدافع عنهم وعن حقوقهم .. ففتحوا ابواب الجامع الأزهر وازداد عدد الناس وباتوا ليلتهم في صحن المسجد وخارجه في "اضراب عام" .. إبراهيم بك .. يبدا الحديث .. الآن .. يقول أنه لا يعجبه الحال وانه غير راضي عن هذه الضغوطات على الشعب ويعتذر لمشايخ الأزهر ويرسل لمراد بك يحذره من تفاقم الأمر .. يقرر مراد بك اجابة مطالب المعتصمين وقال انه يوافق على الغاء كل ما يطلبون الغاءه فيما عدا أي شيئ يخص "ديوان بولاق" !! لا اقتراب من هذا المكان وما فيه .. وارسل إلى المشايخ يأتونه إلى الجيزة ليصالحهم .. وانعقد الصلح .. في صورة يحكيها الجبرتي عن الإنتصار رائعة فيقول : ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وأمامه وخلفه جملة عظيمة من العامة وهم ينادون حسب ما رسم ساداتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية، وفرح الناس وظنوا صحته وفتحت الأسواق وسكن الحال .. العجب العجاب أن الجبرتي يختم هذه القصة الطويلة وببساطة أشد من العجب وكأن ما سيقوله طبيعي دون أي تعليق منه او تعقيب فيقول : وسكن الحال على ذلك نحو شهر ثم عاد كل ما كان مما ذكر وزيادة، ونزل عقيب ذلك مراد بك الى دمياط وضرب عليها الضرائب العظيمة وغير ذلك. في الحقيقة حين كنت أقرأ أغلقت الكتاب فورا وشعرت بدوران واندهاش وضحك خفي ..