مساء يوم الرابع والعشرين من يناير كنت وصديقي الشاعر مؤمن المحمدي نرتب لمظاهرات الغد التي لم نكن حتى وقتها نحلم بأن تتحول إلى ثورة. ناقشنا كافة الاحتمالات الممكنة، هل يخذلنا الشارع كما خذلنا طوال سنوات مضت أم أن الثورة التونسية وما خلفته من أحلام رومانسية يمكن أن تدفع الشارع للغضب، ناقشنا أيضا ما يمكن أن يترتب على تحرك الشارع إن تم سواء من ردود فعل الجهاز الأمني أو مؤسسة الرئاسة أو الحكومة. ما اتفقنا بشأنه أن المؤسسة العسكرية سوف تكون كلمة السر في الأيام القادمة في حال تحول المظاهرات إلى ثورة تستلهم النموذج التونسي. أخبرته بأن لدي معلومات غير مؤكدة بالطبع بأن المؤسسسة العسكرية بدأت في الانزعاج من تحركات جمال مبارك نجل الرئيس المخلوع، خصوصا وأنه قد بدأ حسب ما كان لدي من معلومات في تحسس أقدامه داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وتبعا لمعلوماتي فقد كانت المؤسسة العسكرية لديها غضب ليس بالهين على مشروع التوريث الذي بدا أنه في طريقه لأن يكون واقعا. ومع هذا تناقشنا فيما يمكن أن يترتب على هذا الغضب إن كان صحيحا في حال تحرك الشارع، وناقشنا احتمالات وقوف المؤسسة العسكرية بجانب الثورة في ضوء ثقتنا في أنها أكثر المؤسسات الوطنية.. وطنية بحكم تاريخ لا أبالغ إن قلت إنه يمتد لسبعة آلاف عام باعتبار أن الجيش المصري أقدم جيش نظامي في التاريخ وفكرنا أيضا أنه لا يمكن المراهنة على ذلك بشكل رومانسي وضرورة وضع ولاء الجيش لمبارك باعتباره قائده أولا وباعتباره أحد رموزه أيضا في الاعتبار. ولكن في الحالات كلها غلب التفكير في المؤسسة العسكرية باعتبارها كلمة السر في الثورة التي سوف تشتعل صباح اليوم التالي على نقاشنا، سواء بالوقوف بجانب الثوار ومن ثم ضمان أكيد لنجاح الثورة أو بالوقوف بجانب الزعيم العسكري الحكيم ومن ثم التنكيل بالثوار وبالثورة. ما حدث مساء يوم الثامن والعشرين من يناير رجّح لي أن الاحتمال الأول أو وقوف المؤسسة العسكرية بجانب الثورة لم يكن فقط هو الاحتمال الأكيد وإنما أيضا الاحتمال الغالب على تفكير المتظاهرين كلهم، فما أن أذيع خبر نزول الجيش للشارع والذي عرفناه من أحد هواتف المتظاهرين المدعوم بخاصية استقبال الإرسال التليفزيوني حتى هلل المتظاهرون ورقصوا فوق كوبري قصر النيل، كما لو أن لديهم عقيدة أكيدة أن الجيش لن يغدر بهم أبدا. وفي ظني أن هتاف المصريين الذي تردد كثيرا حتى ابتذل (الجيش والشعب يد واحدة) لم يكن استجداء للدعم من الجيش بقدر ما كان تكليفا من الشعب لجيشه بحمايته وحماية ثورته وحماية وطنه. تأكد لنا في الأيام اللاحقة أن المؤسسة العسكرية لم تنقذ الثورة فحسب بل أنقذت الوطن أيضا، فلولا المؤسسة العسكرية وموقف المجلس العسكري لدخلت مصر في نفق مظلم لا يعرف إلا الله كيف كان لنا أن نخرج منه. ومع هذا فما أن تسلم المجلس العسكري مقاليد الأمور في مصر حتى أصبح محل نظر باعتباره اللاعب الأساسي في المشهد السياسي، وعلى هذا الأساس فحسب أمكن انتقاد دوره السياسي، والتفكير في كونه يجامل طرفا على آخر، بل والتفكير أيضا في كونه يمارس دوره السياسي باستبدادية مقيتة لم تتمكن الثورة من محوها من حياتنا السياسية. في تصوري أن المجلس العسكري حمى الثورة ولكنه لم يتفهمها. فربما بحكم الطبيعة المحافظة التقليدية الملمح الأساسي في أي مؤسسة عسكرية، وربما لأن المجلس العسكري لم يقد الثورة بنفسه، وربما لأنه تفاجأ بها مثلما تفاجأ بها أصحابها، وربما لكل هذا معا أصبحت الثورة في مأزق كبير، فكيف تدير الثورة مؤسسة غير ثورية. ما لم يفهمه المجلس العسكري أن الثورة اختصار للزمن، تتطلب تغييرات ليست جذرية وحسب وإنما سريعة أيضا. الثورة لا يمكنها التمهل ولا يمكنها تأجيل عمل اليوم إلى الغد ولا يمكنها الانتظار حتى يحين الوقت المناسب، فالثورة هي وقتها، ولو أنها لم تكن كذلك لما استحقت اسمها. لهذا فإن الثورة لم يمكنها قبول التغييرات في قيادات الصحف القومية باعتبارها تغييرات ثورية، لأن الصحف القومية انتقلت من نفاق مبارك لنفاق المجلس العسكري، ويكفي مطالعة مانشيتاتها في الأيام التي سبقت جمعة الغضب الثانية. ولهذا أيضا فإن الثورة لم يمكنها قبول حركة التغييرات في المحافظين باعتبارها تغييرات ثورية، لأنها تمت بنفس الآلية التي كانت تتم بها في نظام مبارك. ولهذا أيضا تظل الثورة تسأل لماذا لا يزال عدد غير قليل من وزراء مبارك في أماكنهم، وبالطبع في مقدمتهم سيد مشعل!. ما لم يفهمه المجلس العسكري أن وجوده كمدير لشئون البلاد حتى وإن كان بتكليف من مبارك في خطاب التنحي فإنه بالأساس وجود لاحق بثورة، ومن ثم فإن مبارك كلفه بإدارة البلاد في وقت لم يكن هو نفسه أي مبارك يملك أن يختار، وعليه فإن وجود المجلس العسكري كان بتفويض من الشعب الذي قام بالثورة، وعليه كان ينبغي ألا ينفرد المجلس العسكري بأي من القرارات الكثيرة التي تخطط لمستقبل مصر بعيدا عن مشورة الشعب صاحب الشرعية قبل وأثناء وبعد الثورة، بداية من دفع الناس للتصويت بنعم رغم أن الحيادية كانت من صميم تخصصه كقائم على الاستفتاء نهاية بسلسلة القوانين التي هبطت على الشعب من فوق جبل الأوليمب كقدر لا مناص منه. ما لم يفهمه المجلس العسكري أيضا أن الثورة المصرية لم تكن ملك أحد غير المصريين، فلم يجرؤ أي فصيل سياسي على الادعاء بأنه صاحب الفضل فيها، حتى الفصائل الرئيسة كحركة 6 أبريل والجمعية الوطنية للتغيير، لأنه باستثناء هاتين الحركتين فقد فاجأت الثورة الجميع، سواء من شارك فيها أو من لم يشارك. عدم امتلاك أحد صك الثورة خلق فراغا كان على أحدهم شغله، فتطوعت جماعة الإخوان المسلمون لشغله على الفور وانتهزت الفرصة التاريخية لامتلاك جماعة وحزب وقناة تليفزيونية وفريق كرة قدم، وهو ما لم يكن الإمام البنا نفسه يحلم به. اعتمدت الجماعة على شغلها لفراغ القيادة الثورية على أمرين أولهما أن نظام مبارك اختارها لتلعب دور الوصيف طوال الوقت، للمراهنة على أنها البديل في حال غيابه، ولأنها أيضا محظورة ومن ثم فإنه يمتلك زمامها في النهاية. وثانيهما اعتمادها على ضعف ذاكرة المصريين، فالجماعة التي أعلنت عدم مشاركتها في المظاهرات والتي اضطرت شبابها إلى مخالفة قرارها الإداري المتخاذل والمشاركة بدوافع وطنية لا تنظيمية، بدأت خطابها بعد الثورة بالاعتراف بأنها لم تشارك من البداية ثم القول بإنها شاركت ولكنها أعلنت عدم مشاركتها لتضليل الأمن ثم القول بإنها دفعت شبابها للمشاركة من اليوم الأول ثم المتاجرة بموقف شبابها النبيل في حماية الميدان ليلة موقعة الجمل ثم أخيرا الادعاء الذي صرح به عصام العريان أن الجماعة كانت تخطط لهذه الثورة منذ عدة سنوات! في تصوري أن الفراغ الذي شغلته الجماعة بمهارة قناص محترف أوهم البعض أن وضع الجماعة في المشهد كشريك يمكنه من إدارة الأزمة بل والأزمات المحتملة للمرحلة الانتقالية، ولا يمكن لعاقل الجدال بأن وجود ممثل للجماعة في لجنة تعديل الدستور (صبحي صالح، فضلا عن وجود طارق البشري على رأسها) دون تمثيل أي فصيل سياسي آخر كان له معنى آخر. هذا فضلا عن التوافق في عدد من المواقف منها الحوار الذي نشرته الأهرام المسائي مع اللواء ممدوح شاهين قبيل الاستفتاء بيوم والذي كان عنوانه كالتالي (اللواء ممدوح شاهين: فوز “نعم” ينقل مصر نقلة تاريخية كبرى) وهو العنوان الذي اتفق مع موقف الجماعة حتى أمكن القول إن القوى السياسية كافة كانت في مواجهة مع المجلس العسكري والجماعة أصحاب المصلحة في إنهاء المرحلة الانتقالية في أسرع وقت. نتيجة الاستفتاء الذي جرت فيه أبشع عملية لاستغلال الدين في السياسة في تاريخ مصر أظهر الجماعة باعتبارها الفصيل الجدير بالمشاركة، وهو ما أظهرته للأسف الساعات الأخيرة قبل جمعة الغضب الثانية، حيث انبرت الجماعة في إشاعة الشائعات التي من شأنها تدمير الثورة الثانية، فيما عمل المجلس العسكري على تخويف المصريين من النزول مرة بالادعاء أنهم سوف يكونوا معرضين للقتل ومرة بالتأكيد على أن الجيش لن يكون موجودا لحمايتهم، فيما بدأ السلفيون في أكبر حملة تشويه للمتظاهرين بالادعاء بأنهم “ملحدون وكفار وعلمانيون”، وللمرة الثانية تلتقي مصلحة المجلس العسكري مع الجماعة وأخواتها، ويعملان معا كل بمفرده أو بالاتفاق على تحقيق المصلحة الخاصة حتى ولو كانت على حساب الشعب الذي أوكل الأول تصريف شئونه ومنحه شرعية وجوده على رأس الدولة، والذي منح للثاني قناة تليفزيونية وفريق للكرة! والحقيقة أن تلاقي مصلحة المجلس العسكري والجماعة يمكن فهمه أيضا في ضوء مأزق المؤسسة العسكرية نفسها، فما يتجاهله الجميع أن الثورة المصرية لم تكن ضد نظام مبارك بشكل شخصي، وإنما كانت ضد ما يمثله نظام مبارك من حكم عسكري استبدادي قاهر لشعبه، بداية من حكم ناصر ومرورا بحكم السادات الذي لم تكن مصر في عهدهما أفضل حالا على المستوى السياسي على الأقل، من حيث الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية. لهذا فإني اعتقد أن تبني الجيش للثورة الشعبية لم يكن فحسب بدوافع وطنية رغم قناعتي بأن الوطنية هي عقيدة الجيش المصري وإنما أيضا بدوافع تخص استمرار شرعية المؤسسة العسكرية في الدولة المصرية، فإذا كانت مصر الحديثة يبدأ تاريخها بثورة يوليو فإن شرعية يوليو استمرت طوال ستين عاما دعمها وجود ابن من أبنائها على رأس الدولة كما دعمها الدور الوطني الكبير في حربي الاستنزاف وأكتوبر. تعرف المؤسسة العسكرية أن هذه الشرعية قد لا يطاح بها حتى ولو جاء رئيس الدولة من خارجها إن هي وقفت بجانب الثورة والتضحية بمبارك، وفي الوقت نفسه تعرف أن التاريخ الجديد الذي خطته ثورة يناير قد يضعها تحت طائلة المساءلة الشعبية المشروعة كما هو الحال في كل الدول الديمقراطية حيث يناقش البرلمان ميزانية مؤسساته العسكرية ويتدخل في سياساتها وما إلى ذلك من أمور لم تعد بهذه الحساسية التي كانت عليها. يمكن فهم النقطة الأخيرة في ضوء مطالبة اللواء ممدوح شاهين بوضع المؤسسة العسكرية في مكانة مميزة في الدستور القادم، للمحافظة على مكتسباتها، وهي المكتسبات التي لن يحافظ عليها غير دستور تسطر مواده تحت أعينها، أو على الأقل بالتوافق مع واضعيه، لهذا أيضا قد يكون تلاقي مصلحة المجلس وجماعة الإخوان وأخواتها مفهوما، فالأخيرة تستعجل الوقت لإجراء الانتخابات البرلمانية حتى تهيمن عليه، من ثم فإنها تكون مسئولة عن وضع الدستور الذي يعلم الله كم سوف يصبر عليه المصريون قبل تغييره مرة أخرى، بينما الأول يستعجل الوقت لإنهاء المرحلة الانتقالية فيما يأمل أيضا بوضع مميز في التاريخ الجديد لمصر الثورة. لا أقول بوجود اتفاقات تجري تحت المنضدة، ولا في صفقات تعقد في غرف مغلقة، فأنا استبعد ذلك لثقتي في وطنية المؤسسة العسكرية، (وهي الثقة التي أجلت مقالي أربعة أشهر)، ولكني أقول إن لعبة السياسة قد تفرض تحالفات وتعارضات طوال الوقت، وبما أن المجلس العسكري يقوم الآن بدور سياسي رئيسي في المشهد السياسي المصري فإنه يحاول طوال الوقت المواءمة بين تلبية مطالب الثورة وبين مراعاة بعض الأصوات الرافضة لبهدلة مبارك وأسرته على آخر الزمن، وبين التفكير في مستقبل المؤسسة العسكرية وفي وضعها المأمول، وبين التفكير في مستقبل مصر، وبين التفكير في المتربصين بمصر من خارجها، ولا شك أن المواءمة بين كل هذه الأمور لا يضع الثورة في نصابها الحقيقي، وقد يعطل الثورة بل قد يسلمها لفصيل سياسي لا يعبر عن الشارع، بل وقد يقضي عليها كأن لم تكن، لأن الثورة تنجح حين تدير نفسها بنفسها، أما وأنها قد وكلت المجلس العسكري في إدارة شئونها فعليها أن تقنعه أولا أنها ثورة حقيقية، وأنها جادة في تنفيذ مطالبها غير منقوصة، وأنها جادة في حشدها لموجات الغضب حتى لا ينفعل وكيلها مرة أخرى في التليفزيون اعتراضا على وصف مظاهرات الجمعة 27 مايو بأنها حاشدة! وأخيرا فقد يكون البيان الأخير للمجلس العسكري والذي أعقب جمعة الغضب الثانية بأقل من ثمانية وأربعين ساعة إعادة نظر في مواءماته وفي تقييمه لدور الجماعة وحجمها الحقيقي، خصوصا وأن الجمعة التي اعترض اللواء ممدوح شاهين على وصفها بالحاشدة، كانت على وجه الدقة حاشدة!. وباعتبار التخويف الذي مارسه المجلس قبلها لإفشالها وباعتبار التخوين الذي مارسته الجماعة قبلها لإفشالها وباعتبار التكفير الذي مارسته أخوات الجماعة قبلها أيضا لإفشالها، نكون بإزاء مشهد كاشف جدا لشعب لم تخفت ثورته رغم مضي أربعة شهور، ولن ترهبه أية تخويفات أو ادعاءات، لأن ما لم يكن يفهمه البعض أن الثورة التي قتل فيها ثمانمائة شهيد كل من شارك فيها كان “مشروع شهيد”، وأن الثوار عرفوا أن قوتهم في وحدة صفهم في مواجهة التخويف والتخوين والتكفير، قبل أن يكون في مواجهة الثورة المضادة. هذه مجرد رؤية قد تصيب وقد تخطئ.. والله الموفق والمستعان.