قبل نحو سنة كتبنا في هذا المكان محذرين من خطورة المؤامرة شبه العلنية التي تحاك ضد المؤسسة العسكرية العربية، وتهدف بالأساس الى خلخلة أركان الجيوش العربية، وزعزعة كياناتها ومكوناتها، وإفراغها من مضامينها القتالية وموجوداتها التسليحية وروحها المعنوية والانضباطية. يومها وردتني ردود كثيرة من القراء حول هذا الموضوع، سواء من داخل الأردن أو خارجه، أو من لدن عسكريين متقاعدين أو مواطنين عاديين، حيث أجمعت معظم هذه الردود على أهمية إثارة مثل هذه المسألة مراراً وتكراراً، وعلى ضرورة التنبه لما يدبر بليل للجيوش النظامية العربية تحت ذرائع وعناوين مختلفة. هذا الأوان حان وقت التحذير مجدداً من مغبة استمرار المؤامرة إياها ضد العسكرية العربية، وتحديداً ضد الجيش الأردني الذي ما زال على قيد التماسك والاحتراف والانضباط من بين الجيوش العربية المحيطة بإسرائيل، ولا سيما بعد تفكيك الجيش العراقي، واستنزاف الجيش السوري، وإنهاك الجيش المصري بأزمات الجبهة الداخلية وانقساماتها التي توشك ان تودي بمصر الكنانة ارضاً وشعباً ومصيراً. يستحيل على اسرائيل التي تخطط لإقامة "الوطن البديل" ذات وقت قريب أو بعيد، أن تتقبل بقاء الجيش الأردني على حاله الراهن، وأن تسلم بحقه في القوة والجاهزية والكفاءة القتالية، ليس لخوفها من مخاطره الهجومية التي تعرف أنها محدودة للغاية وسط هذه الظروف العربية البائسة، بل لخوفها من قوته الدفاعية المؤهلة لإحباط الاطماع والمخططات العدوانية الصهيونية المتمثلة في مشروع الترانسفير والتهجير القسري لقطاعات واسعة من ابناء الضفة الغربية باتجاه الارض الاردنية. ما زالت الذاكرة العسكرية الإسرائيلية تحتفظ بصورة الهزيمة النكراء التي مني بها جيشها في معركة الكرامة، حين أراد أن يتخطى النهر ويدنس التراب الوطني الأردني، وقد قرأنا الكثير مما كتبه القادة الصهاينة فيما بعد، عن هول المفاجأة التي كانت بانتظار جنودهم حين عبروا النهر، وظنوا ان العملية ليست أكثر من مناورة سهلة ومزركشة بالرصاص الحي. إسرائيل قد تستطيع التعاطي مع النظام السياسي الاردني بخصوص الحلول الاستسلامية والالتفافية، وقد تهدده أو تغريه او تضغط عليه عبر الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية، ولكنها أبداً لن تستطيع تنفيذ مؤامرة الترانسفير والوطن البديل ما دام "أبناء الحراثين" يمسكون بزناد البنادق وعنان الأمور، نظراً لان ولاءهم لأرضهم وقبور ابائهم وأجدادهم يتقدم - ساعة الجد - على كل ولاء، ويتفوق على كل انتماء، ويولد لديهم شجاعة اضافية اين منها شجاعتهم واستبسالهم في معركة الكرامة التي أخذها القادة العسكريون على عاتقهم دون التقيد مراراً بموقف القيادة السياسية. لكل هذا يتعين إزاحة الجيش الأردني من طريق الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية التي غالباً ما ستتم على حساب دول الجوار العربي، بعدما عقدت اسرائيل العزم على تهويد كامل فلسطين، ودفع الكثير من أبنائها الى خارج الحدود وتشريدهم في كل أرجاء الدنيا.. فالمشكلة عند حكام إسرائيل لم تعد جغرافية، بل ديموغرافية تتعلق بمصير السكان وليس ظروف المكان. حتى الأطفال يدركون أن افضل وأنجع طريقة لضرب قوة وتماسك الجيش - أي جيش - هي توريطه في حروب ليست له، ومغامرات خارج حدوده وحدود عقيدته العسكرية او القتالية، وقد سبق للجيش الأردني أن حارب أوائل عقد السبعينات من القرن الماضي ضد ثوار ظفار في سلطنة عمان، غير أن المرحوم الملك حسين سرعان ما تدارك هذه الغلطة الاستراتيجية، وقام بسحب قواته على الفور، وقبل أن تقع الفاس في الراس. قصدت أن أقول من هذه المقدمة التي طالت، أن أي تفكير - مجرد تفكير - في اقحام الجيش الأردني في اتون الازمة السورية الملتهبة، هو رجس من عمل الشيطان والأمريكان واليهود، ومؤامرة لئيمة تستهدف هذا الجيش بأكثر مما تستهدف الجيش السوري، ووصفة خبيثة لاستيراد عدوى الاقتتال والخراب والفوضى الدامية، بدل صدها وردها والحيلولة دون انتقالها الى الداخل الأردني. هي وصفة ملعونة كنا نتوقعها، وسنبقى نتوقع مثيلات لها ما دمنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً على جيشنا وأمننا الوطني ونسيجنا الاجتماعي وسلامة جبهتنا الداخلية.. وما دمنا نعلم علم اليقين أن استهداف الوطن الأردني إسرائيلياً وأمريكياً سوف يبدأ باغتيال قوته العسكرية وقدراته الدفاعية.. فقد تعلمنا من الأمس القريب أن ضرب وحدة الجيش السوداني واستنزاف قوته في الحرب الأهلية قد سبق تقسيم السودان وانفصال جنوبه عن شماله، وأن قرار الحاكم الأمريكي بريمر بحل الجيش العراقي في وقت مبكر قد مهد السبيل لاستقلال الكيان الكردي وقيام نظام المحاصصة وتناحر المحافظات السنية والشيعية في بلاد الرافدين، وقل مثل ذلك أو أكثر عما يجري اليوم في ليبيا واليمن بعد اسقاط جيشيهما، وفي سوريا غداً إذا جرى اسقاط جيشها وتفكيكه لا سمح الله. وفقاً لكل القواعد والقياسات الاستراتيجية، ليس للأردن أدنى مصلحة في زج جيشه طرفاً في الصراع الدائر بسوريا، وسنداً لكل الحسابات الوطنية والذاتية البحتة - دعك من الحسابات القومية - سيخرج الأردن خاسراً من هذا المعمعان في كل الأحوال، سواء انتصر الجيش السوري أو العصابات المسلحة التي تقاتله.. ففي حال انتصار هذه العصابات سوف يتحقق تقسيم سوريا وتغول الجماعات الإخوانية والتكفيرية التي ستضع الأردن نصب عينيها، وتعتبره دار حرب يتعين تحطيمها لكي يسهل ضمها الى مشروع دولة الخلافة في العراق والشام الذي بشرتنا به مؤخراً.. وإذا كان فينا من يستهجن مثل هذا القول ويستغربه ويستبعده، فليس عليه إلا أن يعود بذاكرته الى ما قبل عامين فقط، ليدرك أن ما كان مستحيل الحدوث في سوريا آنذاك قد أصبح الآن امراً واقعاً ومسربلاً بالدماء. أما في حال انتصار الجيش العربي السوري، وانهزام العصابات المسلحة ومعها حلفاؤها الذين هبوا الى نصرتها وبضمنهم الجيش الأردني فلسوف تضطرب الأحوال الأردنية تمام الاضطراب، وتتفاقم الأزمات والانقسامات والاصطفافات الى أقصى حد، ولن تنفعنا حينذاك أموال الخليج وعواطف أمريكا وأوروبا، لأن الطريق ستغدو سالكة تماماً أمام تصفية القضية الفلسطينية، وإقامة الوطن البديل في أردن لن يكون آمناً ولا مستقراً، بل سيكون ملعباً لكل التناقضات والتناحرات الأهلية والإقليمية والصهيونية. مجرم بحق الأردن أولاً، ومتآمر على شعبه وترابه ثانياً، ومتواطئ ضد جيشه وأمنه ووحدته الوطنية ثالثاً، كل من يفكر - مجرد تفكير - في توريط جيشنا خارج حدوده، وتحميله فوق طاقته، وتسخيره لغير الدفاع عن الكيان الأردني فقط.. فما دامت إسرائيل الباغية لا تريد الانخراط في الاحداث السورية عسكرياً مخافة صواريخ دمشق وانتقام حزب الله، وما دامت تركيا الحاقدة لا تقوى هي أيضاً على مهاجمة سوريا تحت وطأة الحسابات الروسية والايرانية المعروفة.. فهل نحن في الأردن مؤهلون للتورط لان على راسنا ريشة؟ وهل يمكن للصواريخ السورية التي تشل إسرائيل وتغل يدها، أن تتحول في سماء عمان الى العاب نارية وفراقع صوتية إذا اضطرت دمشق لاعتماد "خيار شمشون"؟ لو لم يكن العقل السياسي الأردني مقيداً في حريته وإرادته، ومرتهناً للعصا الامريكية والجزرة الخليجية، لكان قد أدرك بكل سهولة أن مصلحة الأردن الذاتية وأمنه الوطني يكمنان في وقوفه الواضح والحازم إلى جانب القيادة السورية التي تخوض معركة المصير العربي بأسره، وتحول دون إعادة عقارب الساعة العربية الى العصر المغولي، وتبعد عن الأردن أشباح الوطن البديل ودولة الخلافة على حد سواء.