كأن ثورةً لم تكن.. وكأن دماءً لم ترق.. وكأن حلمًا جميلاً، سقيناه ماءَ القلب، لم يورق، بعد ثلاثين عامًا من القحل والجدب، وكأن ميادين "الكل في الواحد"، لم تهتف معًا: عيش حرية عدالة اجتماعية. ما أشبه السلف بالخلف، وأشبه لاعقي أصابع المرشد وجماعته الظلامية، بلاعقي أحذية مبارك وحزبه المنحط المنحل؟ صحافيون تأخونوا، واعتمروا العمامة، على سبيل التكيّف بيولوجيًا مع البيئة الجديدة، ومنهم واحد، أخذ يتشدق ويتبجح، بأنه ابن المشروع الإسلامي، بعد أن كان يمارس "الردح الرخيص" للثورة، طيلة ثمانية عشرة يومًا، وبدلاً من أن يتوارى، تشبث بمساحة البث، فكيف يترك الكعكة وقد تعود العيش اللين، واحترف الليونة؟ وثمة محللون يحللون كل شيء، ثم يحرمون ما يحللون، حسب الأوامر، وقد أصيبوا بلوثة عقلية، كونهم لا يعرفون إلى من ينتهي الملك: الإخوان أم العسكر، فقرروا أن المرحلة لرقص العاهرات على سلالم ملاهي الدرجة الثالثة، فرقصوا "بهدوء".. وكتاب مقالات مصابون، بالعِنّة السياسية والأخلاقية، كذاك الذي أتحفنا ذات صبح معتكر، بمقالات "طشة الملوخية"، وقد عاد اليوم يمارس "تسبيك" الفساد، ويحرص قبل أن يرفع الغطاء عن مقاله، على أن يشهق شهقة هائلة، كي تنضج طبخته مستساغة، كما يحبذ الجالس على الكرسي، أيا ما يكون الكرسي، وأيا من يكون الجالس. أما ماسبيرو، المبنى ذو الإشعاع، الذي كان في الستينيات، وما أدراك ما الستينيات، يشكل وجدان أمة، وينثر نور ثورة، في الحقول، وفوق الجبال، وعلى التلال، وكثبان الرمال، من المحيط إلى الخليج.. أما ماسبيرو، فلم يتغير، ولم يتحرك خطوةً إلى الأمام، أو إلى الوراء، أللهم إلا أن "الجزيرة" ستبث قريبًا من طابقه العاشر. ومع ماسبيرو، دخلت في زفة الحاكم بأمره، قنوات يقال إنها دينية، شرعت تستولد الأكاذيب من رحم الفتنة، فإذا بالأقباط يتظاهرون، لارتفاع سعر السولار، لا طلبًا لحق سليب، وهم بضع عشرات، يتلقون تمويلًا خارجيًا، وينفذون أجندة صهيوأمريكية، وإذا بمتظاهري الاتحادية، يأكلون الجبنة "النيستو"، وهي من بدع الغرب الكافر، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والرئيس البكّاء الذي لا يفوّت قيام الليل، لا ينسى في حوار تلفزيوني مخاطي لزج، أن يقول بلغة بلاستيكية: إن قلبه الهش تألم، ومشاعره المرهفة توجعت، يوم قيل له إن عساكره انتزعوا من طفل اعترافًا، بتلقي ستمائة جنيه، كي يقذف المولوتوف على مقر الاتحادية، لكنه لم يكاشفنا عما إذا كان عساكره، قد أفضوا إليه فيما أفضوا، بأن في سجونه نحو أربعمائة طفل، منهم من قضى نحبه تعذيبًا، ومنهم من تحت السياط ينتظر. كأن ثورة لم تكن.. فالكل باطل، إلا القابع في القصر، الرئيس ذو الجلد السميك، الذي لا يفتأ فيما قوات أمنه، أو ميليشيات جماعته، تعذب المصريين، وتسحل المصريين، وتقتل المصريين.. لا يفتأ أن يكرر: أنا الرئيس وأنا القضاء والقدر.. يقولها وفي أذنيه وقر، وفوق طبلتهما، طبقات شمع فوق طبقات. وأما الأحزاب.. فما أشرس المعارضة؟ لقد عرفت النخبة الحاكمة، مواطن ضعف النخبة المعارضة، وفهمت أن لعابها سرعان ما سيسيل على الكراسي الوثيرة، فشرعت تدق الأسافين بين أحزاب جبهة الإنقاذ، وأخذت تلوح بجزرة المقاعد البرلمانية، لمن يوصفون بأنهم رموز فرادى.. وطفقت تُوّزع المناصب منزوعة الصلاحيات، كمنصب نائب رئيس حكومة، انطفأت معه وبه قناديل الكهرباء، وعدنا معه وبه، إلى زمان قنديل أم هاشم أو هشام، لا فرق. رئيس حكومة، لا نحس له وجودًا، ولا نسمع له صوتًا، إلا في التافه من الكلام، والأقاويل الفارغة المفرغة الرتيبة، إلى درجة أنه أتحفنا، في تسجيل مضحك حتى البكاء، بمآثر سياسية خالدة، عن الرضاعة الطبيعية، ونظافة الثدي! لكن المعارضة.. رغم ذلك، تقبل الصفقة، وتقضم الجزرة المتعفنة بتلذذ، ورموزها مهما ظهروا صفًا واحدًا، أو بنيانًا مرصوصًا، ليست مؤلفة أفئدتهم، فهي شتى وفيها زوغان وزيغ، وهم بما أضمرت صدورهم، يتآكلون من الداخل، كمفاصل عجوز، تعاني هشاشة العظام. الكل يبحث عن غنيمة ثورة.. كلصوص المقابر، أو أثرياء الحروب، فإن رأى واحدهم، جثة تضرجها الدماء، هرع يتفقد الفكين، عسى أن يعثر على سِنة ذهبية، يقتلعها بضمير أصابه التليف، وإن لم يجد، يكون الخيار الاستثماري الثاني، التقاط صورة تذكارية في الجنازة، تأكيدًا على أنه من الراسخين في العمل الثوري. المحاكم برأت رجال المخلوع، وخريجو السجون اللاحقين، هادنوا خريجي السجون الأولين، وتأبط مصاصو الدماء أذرع بعضهم بعضًا، ومشوا في سهول مصر مرحا، فيما المصابون بالخرطوش ما يزالون يسألون الدولة علاجًا، والدولة تضيف إلى المصابين، مصابين جددًا، ولا تتورع في الوقت ذاته، عن تسجيل أسماء بعض الشهداء، في قائمة بكاء، ولائحة حزن، طالتا فوق ما نطيق. كأن ثورةً لم تكن، ففلذات أكبادنا.. أطفال الشوارع، لحمنا ودمنا، مايزالون يرتعشون تحت جسور الشتاء، من شدة برد، وقسوة أسفلت، وساكنو العشوائيات، ما يزالون ينامون، وسط رائحة موت وأمراض وفقر وجوع وجهل، والملاجئ تقدم لمن اشتعلت رؤوسهم شيبًا، في نهايات عمر يشحب، رغيفًا مغمسًا بالإهانة والجحود، والمريض إن احتاج نقل دماء، عليه أن يسدد الثمن أولاً، أو أن تجف عروقه عرقًا فعرقًا، حتى يرحل ليس معه، من الحياة، إلا وجع الحياة. هكذا حال الثورة.. بعد أن نط عليها أولو اللحى، وانقضوا ينهشون لحمها نهشًا.. هكذا مصر تُزف مكرهةً، إلى وهابي أو إرهابي، له كرش مهول، وجلباب قصير، أسنانه صفراء، رغم أن المسواك لا يفارق يمينه. إنه يريد مصر، ومهرها عنده زجاجات زيت وعبوات سكر وحنطة وبعض من قثائها وفومها وعدسها وبصلها. إنه يريد امتلاكها، بما يسمسر من صفقات بيعها، ومن عرضها في حوانيت قطر، كي يملكها بما استولى عليه منها. لكن.. هل ستتم الزيجة غير المتكافئة؟ قسمًا بالله لن تتم زيجة، بين بهية الدنيا، وذوي اللحى التي تعشش تحتها العقارب، وترقد أفاعي الكراهية والإقصاء والطائفية، فثمة قلوب استطابت مذاق الرصاص، وثمة ضمائر أسقطت عبادة الفراعين إلى الأبد، وكل شهيد ارتقى السموات، ترك وراءه ألف مشروع شهيد، وإن الحق مع الثورة، وإن الله مع الثائرين. [email protected]