رغم تعدد الثورات التي قام بها الأقباط المصريون ضد الحكام العرب وخاصة في عصر الولاة طوال القرن الثامن الميلادي إلا أن ثورة البشموريين التي بدأت عام 832 م في فترة حكم الخليفة المأمون بالخلافة العباسية كانت أشدها وأعنفها ، تلك الثورة التي داعبت أوراق الكثير من المؤرخين والروائيين وكذلك صناع السينما العالمية ، حيث صرح المخرج الأمريكي " ميل جيبسون" أنه بصدد التجهيز لبدء تصوير فيلم تحت عنوان " مأساة شعب" والذي يحكي فيه تاريخ ثورة الأقباط المعروفين بالبشموريين. ورغم ادعاء بعض المتطرفين أن هذه الثورة كانت ثورة دينية قام بها أقباط مصر ضد المسلمين إلا أن المؤرخين الأقباط والمسلمين علي السواء أكدوا أن الثورة التي قام بها أهل بشمور أو البشرود كانت ثورة اجتماعية ضد ظلم الوالي " عيسي بن منصور" الذي ضاعف ضريبة الأرض الزراعية " الخراج" وكذلك الجزية عشرات المرات مما دفع بأقباط مصر الي أن يقوموا ببيع أبنائهم حتي يستطيعوا دفع الضرائب وأمام هذا الظلم لم يجد البشموريون أمامهم سوي الثورة . هناك في شمال الدلتا وبالتحديد في تلك المنطقة الساحلية بين فرعي دمياط ورشيد عاش أهل بشمور في أرض موحلة يعملون في إنتاج ورق البردي وصيد الأسماك إلا أن ظلم الوالي " عيسي بن منصور" في عهد الخليفة المأمون كان سببا في حرق منازلهم وكنائسهم بل القضاء عليهم . وعن أسباب قيام البشموريين بالثورة يقول ساويرس بن المقفع " عامل العرب البشموريين علي الأخص في غاية القسوة، فقد ربطوهم بسلاسل الي المطاحن وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب سواء بسواء ، فاضطر البشموريون أن يبيعوا أولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من آلام هذا العذاب وكان يعذبهم رجل من قبل الوالي اسمه غيث" وأيد المؤرخ " ميخائيل السوري " سبب ثورتهم الذي ذكره ساويرس بن المقفع وزاد عليه فقال " وقالوا إن الوالي كان يرغمهم علي دفع الجزية وكانوا لايستطيعون تحملها ، فكان يسجنهم ويضربهم ضربا مبرحا ويضطرهم إلي طحن الحبوب كالدواب تماما ، وعندما كانت تأتي نساؤهم إليهم بالطعام كانوا " خدمة" يأخذونهن ويهتكون عرضهن ، وقد قتل منهم عددا كبيرا وكان عازما علي إبادتهم عن بكرة أبيهم حتي لا يشكوه إلي الخليفة". وبسبب ما تعرض له الأقباط البشموريون من ظلم واضطهاد أعلنوا الثورة علي الوالي حيث قاموا بطرد عمال الدولة ورفعوا راية العصيان ورفضوا دفع الجزية وتواصلت الاحتجاجات الي أن عم الغضب جميع أنحاء البلاد وأمام هذا الغضب تنصل الخليفة العباسي المأمون مما فعله واليه وقال " أنا غير مسئول عن سياسة ولاتي لأني لم أمل عليهم هذا الموقف الذي اتبعوه ، أنا لم أفكر قط في إرهاق الناس وإذا كنت أشفقت علي الروم أعدائي فكيف لا أشفق علي رعيتي وقال للوالي المسئول " عيسي بن منصور " لم يكن هذا الحادث العظيم إلا من فعلك وفعل أعمالك حملتم الناس ما لا يطيقون حتي تفاقم الأمر واضطربت البلاد " واكتفي الخليفة العباسي بتوبيخ الوالي وألبسه ثوبا أبيض وأمر أن يطاف به في الشوارع " هذا الموقف السلبي للخليفة المأمون لم يستمر طويلا بعدما شعر بمدي خطورة ثورة البشموريين وتهديدها للحكام العرب حيث أرسل أخاه المعتصم علي رأس جيش قوامه أربعة آلاف جندي لإخماد ثورة الأقباط ولكن الثورة لم تخمد ولم يهدأ أهل بشمور مما اضطر المأمون الي إرسال جيش آخر بقيادة " أفشين التركي" وكان ذلك في ليلة الجمعة الليلة التاسعة من محرم ولكنه فشل هو الآخر في إخماد الثورة فلم يقدر عليهم لمناعة منطقتهم المحاطة بالمياة وكانوا يقتلون كل يوم عددا كثيرا من جنوده وبعد فشل " أفشين " في إخماد الثورة اضطر المأمون أن يزحف من بغداد الي مصر علي رأس قوة حربية لإخماد الثورة التي فشل في إخمادها كل قواده وقام باستدعاء الأنبا ديونيسيوس البطريرك الأنطاكي والأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط وطلب منهما تحت التهديد أن يتعاونا معه في إخماد الثورة فكتب البطريرك يوساب خطابا الي البشموريين حاول أن يقنعهم بعدم قدرتهم علي مقاومة الخليفة بالسلاح وأن ينصرفوا عن عزمهم في مواصلة الحرب ولما اتضح أن هذا الخطاب لم يؤثر فيهم ، أرسل لهم الخطاب تلو الخطاب ملحا في رجائه ، غير أن البشموريين عقدوا العزم علي مواصلة الثورة حتي لو كلفهم الأمر فناءهم فأخذوا يصنعون الأسلحة لمحاربة الخليفة علانية ، فدارت الحرب الضارية بين جيش المأمون وأهل بشمور كان نتيجتها تدمير مساكن البشموريين وهدم كنائسهم وحرقهم وقتلهم ولما رأي المأمون كثرة القتلي أمرجنوده بأن يتوقفوا عن قتلهم ثم سافر ما تبقي منهم الي أنطاكية وكان عددهم ثلاثة آلاف مات معظمهم في الطريق أما الذين أسروا في أثناء القتال فقد سيقوا كعبيد ووزعوا علي العرب وبلغ عددهم خمسمائة فأرسلوا الي دمشق وبيعوا هناك وتصف د- سيدة إسماعيل ما فعله جيش المأمون بالبشموريين فتقول" ركز المأمون جميع قواته ضدهم وأعمل فيهم الجند و السيف وأحرقوا مساكنهم وهدموا كنائسهم وقتلوا صغارهم وسبوا نساءهم وأجلي الخليفة رجالها إلي جزر الروم الخاضعة له والي بغداد" أما المقريزي فيقول " انتفض القبط فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال وبيع النساء فبيعوا وسبي أكثرهم حينئذ ذلت القبط في جميع أرض مصر. وتقول الروائية سلوي بكر صاحبة رواية البشموري التي تناولت الثورة البشمورية " ثورة البشموريين لم تكن ثورة دينية كما يراها البعض بل هي ثورة اجتماعية كان سببها تزايد ضريبة الأرض الزراعية ، لأن العرب عندما فتحوا مصر لم يكن لهم دراية بالنظم الزراعية المعمول بها في مصر ، فمنذ عهد الفراعنة كانت غلة الأرض توزع علي أربعة أنصبة " ربع للفرعون وربع للمعبد ، وربع للفلاح وربع لإعادة الإنفاق علي العمل الزراعي ، وعندما جاء العرب لم يطبقوا هذا النظام وكانوا يطالبون بزيادة غلة الأرض وزيادة الضريبة الزراعية ومن هنا أصبح هناك إجحاف بالفلاح الفقير ، وثورات الأقباط بدأت منذ عصر الولاة وحتي العصر العباسي الأول وكانت هذه الثورات تخمد وتقمع حينا لكنها كانت تعود حينا آخر وتتجدد حتي جاء الخليفة المأمون في القرن التاسع الميلادي وقمع هذه الثورة لأنه كان يري أنها تهدد نظام الحكم العربي في مصر " وتضيف بكر أن ثورة البشموريين انضم اليها الفلاحون العرب المسلمون الذين استقروا في مصر وخصوصا من أبناء القبائل اليمنية والقبسية التي كانت تعمل في الزراعة في شمال الجزيرة العربية ورفضت أن تواصل الفتوحات الإسلامية فجاءوا واستقروا في مصر واشتركوا مع البشموريين في الثورة. وعن موقف الكنيسة القبطية من الثورة تقول " أيدت الكنيسة القبطية الحكم العربي الإسلامي ضد الأقباط وأصدرت مرسوما يطالبهم بعدم الخروج عن السلطان" وتختم حديثها بقولها " رغم عدم نجاح ثورة البشموريين إلا أنهم استطاعوا أن يسجلوا بطولات خالدة ضد الظلم والطغيان وقدموا درسا رائعا في الصمود والتضحية" Comment *