دع جانبًا التجاوزات والمخالفات التي شابت عملية الاستفتاء على دستور الإخوان، والتي رصدتها أعين الكثيرين، سواء البطء المتعمد في سير عملية التصويت، أو أوراق الاقتراع غير المختومة، وغلق اللجان قبل موعدها، ومنع المراقبين من دخول اللجان، أو بشكل عام حالة الارتباك والعشوائية في الأداء، أو القضاة "الملتحين" الموزعين على لجان التصويت من أجل التوجيه، والتأكيد للناخبين على أن "الإخوان المسلمين" يحملون الخير لمصر! وحاول أن ترى المشهد من زاوية أخرى، إذا كنت من المواطنين الأسوياء الطبيعيين الذين يرون أن ثمة جنسًا آخر يشاركهم الوطن والحياة، فنظرة عامة على طوابير الناخبين، تدل على أن ثمة تغير نوعي في حجم مشاركة المرأة المصرية، ونظرة أخرى فاحصة مدققة تخرج بالكثير من المؤشرات الدالة على مسار الدور السياسي للمرأة في المرحلة المقبلة، وإن كان هذا التغير بدت بشائره في أول استحقاق انتخابي لثورة يناير في استفتاء مارس 2011، لكن معطيات المشهد الحالي تؤكد أن نزول المرأة بهذا العدد، وأداءها أثناء عملية الاستفتاء، عملية تستحق المقاربة، والقراءة بعمق، ودون إصدار أحكام مسبقة. إذا دققت النظر لنساء مصر الحرائر، على اختلاف انتماءاتهن، وأعمارهن، وثقافتهن، ومظهرهن، وأماكن احتشادهن للتصويت على الدستور، فستجد الآتي: دخلت المرأة لجان التصويت وهي عازمة على ألا تُخدع، أو تُرهب، أو يُستهان بعقلها، وقدرتها على رفض التجاوز، وبصوت جهور، ففرزت، بمهارة، القاضي من المحتال، ومن تشككت فيه طالبته بإبراز هويته، وإزاء إصرارها تمكنت من كشف المحتال، والتحقق من هوية القاضي، رغمًا عن الجميع. دخلت المرأة اللجان بنية مسبقة لاكتشاف أية أساليب لتضليلها والتأثير عليها، فأدركت حتى المستحدث من تلك الأساليب، والتي كان أبرزها، استخدام السبورة الموجودة داخل اللجنة للدعاية غير المباشرة، حيث افترض الأغبياء في المصريين أنهم تلاميذ في الصف الأول الابتدائي، وكتبوا على السبورة (أهم الأخبار): "المليونيات لم تفلح في تغيير الموقف من الاستفتاء"، "يوجد أعداد كافية من القضاة للإشراف على الاستفتاء، بل أكثر من العدد المطلوب"! وهو ما كان مجالاً لسخرية المصرية الواعية التي رأته أسلوبًا جديدًا لإيصال رسائل غير مباشرة، بأنه مهما حدث، فسيمر هذا الكائن المبتسر، بينما دل ذلك على جبن باعثي تلك الرسائل، وخوفهم من الدعوة المباشرة للتصويت بنعم عن طريق توزيع أوراق مثلاً على الناخبات، وفي هذه الحالة كانوا سيلاقون ما يستحقون، وهو ما أعلنت عنه ملامح حرائر مصر، وتعبيرات وجوههن. فما أدراك عندما تكشر إحداهن عن أنيابها، كالتي خلعت النظارة موجهه "تبريقة" ساحقة لواحد ممن يسمون "قضاة"، حينما أعطاها ورقة الاستفتاء، وأشار لها على خانة "موافق"، وقال لها "علمي هنا" إلا أنها روعته وأخرسته بتبريقتها، وخرجت من اللجنة منتصرة لإرادتها. المسيحيات المصريات اللائي مُنِعن من دخول اللجان للتصويت كونهن مسيحيات فحسب، وبالتالي معروف مسبقًا موقفهن من الدستور، لم يُظِهرن انكسارًا واستسلامًا للسلوك الطائفي الحقير الممارس ضدهن من القائمين على اللجان، بل رفضن، واعترضت إحداهن بملأ الصوت غير مكترثة بإرهاب رئيس اللجنة، الذي عض على شفتيه من غيظه قائلاً لها: "لو كنتي رجلاً لضربتك بالجزمة"! في حين أن ذلك لم يشكل مانعًا عند البعض الآخر، الذي لا تعنيه مسألة رجل وامرأة في الضرب كثيرًا، ففي لجنة أخرى رُكِلت "امرأة"، وهي بالتأكيد عكس "رجل"، حتى سقطت على الأرض، وصُفعت على وجهها، من مواطن "ذكر"، لا يحمل أدنى مقومات الرجولة والإنسانية معًا، وربما معالم الذكورة لديه تتلخص في الزوائدُ الخيْطية التي تظهر على جِلْد وجهه، مثله مثل غيره من الثدييات. وعي المرأة المصرية الآخذ في التصاعد تبدى في رد فعلها عندما رأت نائب مرشد جماعة الإخوان، خيرت الشاطر، الذي تجاوز الطابور، وعلا على دولة القانون المحاصرة، وذهب ليدلي بصوته، في حين افترض بعض رجال العصابة، أن العبيد سيقبلون بالانتظار كَرهًا في الخارج حتى يدلي "السيد" برأيه، بعد أن أغلقت له أبواب اللجنة، لكن قابلته الحرائر بالهتاف ضده وحكمه وجماعته، ولم يحمه حارسوه العتاة من عاليات الصوت والقامة. الأخريات من "الأخوات" شاركن "ذكورهن" في إرهاب أخواتهن في الوطن، فحاولن التأثير على الناخبات أمام اللجان التصويتية، والأخطر أن عددًا منهن قام بالإشراف على كشوف الناخبين داخل اللجان، بدلاً من الموظفين الذين تخلف أغلبهم عن الحضور، غير مكتفيات بهذه المشاركة، التي ما كانت إلا لوجه الله والوطن! لكن طالبن الناخبات بالتصويت بنعم من أجل "الاستقرار". بيد أنهن وجدن مقاومة شرسة من رافضات التجارة باسم الدين، واللاتي في المقابل طلبن من الجميع عدم التأثر بهذا الضغط، والتصويت بما يرضي ضمائرهن. في دلالة واضحة على أن التذرع بالاستقرار بات حيلة المفلس، والضعيف، والمزور للوعي والإرادة. الأخريات من "الأخوات" أيضًا، وفي إطار الإرهاب، دعمن التمييز بين المصرية والأخرى، الذي مارسه المشرفين على اللجان من قضاة الإخوان، حين سمحوا للمنتقبات بدخول اللجنة والتصويت، ومنعوا "المتبرجات" من الدخول، فالمنتقبة تدخل، و"السافرة" تنتظر حتى تيأس، وتقرر الذهاب دون أن تقول رأيها، وفي سبيل هذا كان القاضي يغلق اللجنة بذريعة أنه يتناول الغداء، أو يشرب الشاي، لكن "المتبرجة" ظلت صامدة ولم تيأس، وتجمعت مع أخواتها، وتظاهرن أمام اللجان، وهتفن: "زوروها زوروها"، و"دستوركم باطل"، غير عابئات بالسلوك المشين، غير الوطني، وغير الشريف، لمثل هذا القاضي وأخواته من "المنتقبات"، اللاتي علا صوتهن "العورة" بسب أخواتهن في الوطن: "روحوا لموا نفسكم، وبطلوا تبرج وبعدين تعالوا انتخبوا"! كثيرة ومدهشة هي الملاحظات على عملية الاستفتاء، وما حدث لنساء مصر فيها، وما حدث منهن، لكن يبقى أن أهم الدلائل هي أن المرأة المصرية، وعلى الرغم من تعطل مسارها النضالي بشكل عام، في أعقاب انطلاق الثورة المصرية، وانشغالها بمسار النضال من أجل تحرر الوطن واستعادة مجده، فقد شكل الاستفتاء فرصة للإعلان عن حجم وعيها، وقوة ثباتها، وإيمانها بأهمية دورها، وإصرارها على تخطي كل العثرات، وفي مقدمتها كسر قواعد النظام الأبوي الاستبدادي، وتحطيم منظومة العادات والقيم السياسية والاجتماعية الظالمة والهادرة للحقوق، واستعدادها العملي للانتقال من مرحلة المشاركة من خلال التظاهرات والاحتجاجات، إلى التنظيم في إطار حركات ضاغطة للتأثير في عملية صنع القرار واتخاذه، وذلك على الرغم من عدم توافر الإرادة السياسية للجماعة الحاكمة، التي لا ترى المرأة مواطن كامل الأهلية، هذه النظرة التي عبرت عنها مسودة لمواد دستور مشوه يكرس التمييز على أساس الجنس والدين، وخرجت "ستات" مصر الحرائر، ليركلوه بأرجلهن إلى مخلفات التاريخ. صحيح أن غياب الديمقراطية وهيمنة نظام الحزب الواحد يخلقان بيئة غير مناسبة لتقدم المرأة في مسارها نحو الحرية، والمشاركة العادلة الفعالة، وانتزاع الحقوق، لكن المرأة المصرية التي شاركت في صنع واحدة من أهم الثورات في التاريخ، تثبت يومًا بعد الآخر بأنها أهل لتصدر النضال من أجل بناء مصر الديمقراطية، وتمتلك الإرادة، وداخلها قوة كامنة بدأت في التسرب في محيطها المليء بالغربان، وستنتشر حتى تزيحهم. عاشت "ستات " بلادى Comment *