بقدر ما غضبت، بقدر ما سخرت، من مشهد ذاك الخمسيني الذي انتشى فرحاً، واستخفه الطرب، وأخذ يبتذل "كالردّاحات" ويتمايس ذات اليمين ويتمايل ذات اليسار، متغنجاً يخرج لسانه لمرشح الرئاسة السابق، المحامي خالد علي، لما سمع حكم المحكمة بإحالة الدعاوى القضائية بشأن حل الجمعية الدستورية، إلى المحكمة الدستورية العليا. قدر ما شعرت بالغثيان أو بالأحرى التقزز، من المشهد الذي لا يليق إلا ببنت هوى، في ماخور موبوء، قدر ما احترمت خالد علي، إذ وقف يرنو إلى "الرقّاص" ذي الفيه المفتوح واللسان الممطوط، واللعاب السائل على شعر اللحية، وعلى شفتيه بسمة استخفاف، ولسان حاله يقول: إذا أنت حدثك سفيه، أو ناوشك رقيع، فلا تجبه فخير من إجابته السكوت، وإذا أنت خاطبك الجاهلون، فما ينبغي لردك إلا أن يكون تسامياً وترفعاً. على أن ما اقترفه "الرجل" مع الاعتذار لمفردة الرجل، بكل ما تحتويه من قيم أخلاقية، لا يؤخذ باعتباره تصرفاً فردياً، ولا يجوز أن يؤخذ كذلك، فالفعلة الشنيعة الشنعاء، والتصرف الأهوج الهائج، يترجم بدرجة كبيرة منهج التيار الذي ينتمي إليه. تيار يلهج لسانه بالتقوى، وقلبه يستعمره الزيغ والزوغان.. يجهر بآيات القرآن، ولا يردعه ضمير عن عقد صفقات ظلام، متذرعاً بما يسميه تارةً: المكر السياسي، وحيناً: ضرورات المرحلة، ومرةً: مقتضيات الواقع، وما إلى ذلك من مسميات فارغة جوفاء، لا تنتمي إلى ما يدعيه من فضيلة، من قريب أو بعيد. "الرجل" مع الاعتذار للمفردة مجدداً، الذي يريد دستوراً إسلامياً، أخذ يتراقص، وسط رهط من جماعته، من دون أن نرى فيهم مستهجناً أو نسمع منهم رفضاً واستنكاراً، بل على العكس، فغروا أفواههم وتدلت أشداقهم، واستغرقوا في ضحك هستيري، بانت له نواجذهم، أو بالأحرى أنيابهم، واهتزت كروشهم ارتفاعاً وانخفاضاً، وارتعشت خدودهم. سعداء كانوا بما يقترف، وإنهم لمنتشون بنصرهم، في غزوة الدستور المظفرة، ضد القوى القائلة بمدنية الدولة، فلماذا لا يحتفلون ويقصفون وقد صاروا على مرمى حجر من إلغاء الكل وابتلاع الكل؟ لن يصابوا بعسر هضم، فأمعاؤهم تهضم الحديد، وأنيابهم تطحن الزلط، وحلاقيمهم واسعة، بما يسمح بمرور خريطة وطن. سيواصلون كتابة دستورهم، سيجعلونه محصناً لا يجوز المساس به، لمدة عشر سنوات، وسيفصلونه قصيراً فوق الكعوب بشبرين، فضفاضاً كالجلاليب الوهابية، لجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الله عندهم، هي أن ينكحوا الفتيات في ريعان الطفولة، فما أروعه من دستور، يرضي غرائزهم، بما لا يخالف شرع الله. دستور سيؤسسون عليه لتشييد خلافة مرجوة، وأستاذية وهمية، عبر ترسيخ هيمنة رئيس واحد، متفرد ذي سلطان وجلال، خليفة لله على أرض الله وما فيها ومن فيها، لا نائب له، وسلطاته مطلقة لا محدودة، وبوسعه متى يشاء، أن يقذف بكل ذي رأي يخالفه، إلى نار ذات لهب، وأن يختزل سلطات القضاء والتشريع في شخصه المبجل، وربما رويداً رويداً، يتحول نمروذاً، يحيي ويميت، كما زعم النمروذ لخليل الله ابراهيم عليه السلام. إنهم فرحون يتراقصون، يحتفلون يقصفون، يشمتون يلعنون، وهم يحوقلون ويحسبنون، يبدون عكس ما يخفون، يرفعون الكتاب على أسنة رماح، فيما يخرجون ألسنتهم! لكن.. ماذا عن الثورة وشبابها وأهدافها وأحلامها والدماء التي أريقت في ميادين الحق والحرية والتحرير؟ هذه هرطقات ليست مهمة، فالثورة ليست غاية، وإنما وسيلة، لإخراجهم من غياهب السجون، وإدخالهم قصر الرئاسة، وبوسعهم أيضاً أن يفعلوا فعل صاحبهم "الرقّاص" لإغاظة القائلين بها، فهؤلاء الليبراليون والعلمانيون في رأيهم محض حشرات. هكذا إذن.. يتشبثون بدستور نكاح الأطفال، وصناعة "نمروذهم" كي يتمترسوا ببطشه وسلطانه، لكن رويداً ومهلاً، فالنمروذ سقط صريعاً، بسبب حشرة.. قتلته ناموسة دخلت من أنفه، واستقرت في دماغه، وظلت تطلق أزيزاً، لم يكن يهدأ إلا إذا ضربه الخدم، بالنعال على رأسه. [email protected] Comment *